الفضيحة السياسية التي تهز فرنسا:شيراك: بداية النهاية؟

TT

على مدار ثلاثين سنة إلا بضعة أشهر من إقامتي في فرنسا كنت ألمح ظاهرة لم أفهمها إلا منذ بضعة أيام فقط:

وهي ان رئيس الجمهورية يتعرض للزعزعة في آخر سنة في عهده وليس بعد تركه السلطة. كنت أعتقد انه يظل مهيباً مرهوب الجانب حتى آخر لحظة من حكمه بل وحتى بعد خروجه من الحكم.

وربما كانت سذاجتي السياسية هي التي دفعتني الى هذا الاعتقاد. ولكنني اكتشفت مندهشاً ان الفضائح الخاصة به تندلع قبل تركه قصر الاليزيه بشهور طويلة او حتى بسنة كاملة.

كل شيء يحصل كما لو أن خصومه كانوا قد جمعوا له هذه الفضائح في ملفات خاصة ساخنة لكي يفتحوها في اللحظة المناسبة فتنفجر كالقنابل الموقوتة. وبالتالي فنهايات العهود غير بداياتها.

هذا ما فعلوه مع الرئيس السابق فرانسوا ميتران، وهذا ما يفعلونه الآن مع جاك شيراك الذي ابتدأت شمسه تميل نحو الغروب ان لم يكن الأفول. في الماضي اكتشفنا فجأة ان ميتران المشهور بصداقته لليهود ودعمه المطلق لاسرائيل كان في الواقع صديقاً لزعيم الفاشيين الذي أرسلهم الى المحرقة في معسكرات الاعتقال النازية! وهذا الشخص يدعى بوسكيه. طيلة كل فترة حكمه الطويل لم نسمع كلمة واحدة عن علاقته به او عن تواطوئه مع الفاشيين الفرنسيين.

بل كنا نسمع العكس: بأنه مع المقاومة ضد الاحتلال النازي وانه كان رئيس مجموعة كاملة من المغاوير، الخ. فجأة نكتشف انه كان مع الماريشال بييان لا مع الجنرال ديغول قائد فرنسا الحرة!.. فلماذا سكتوا عنه ابان تلك الفترة الطويلة؟

لقد أثرت عليه هذه الفضيحة كثيراً في آخر عهده ونغَّضت عيشه الى درجة انه أدلى بحديث سري لا يُفشى إلا بعد موته للكاتب الشهير جان دورميسون. وفيه يتهم اللوبي اليهودي بأنه كان وراء العملية.

ثم انتشرت فضيحة اخرى هزت ميتران آنذاك: ألا وهي وضعه للعديد من الكتَّاب والفنانين والشخصيات السياسية على آلة التنصَّت الهاتفي لمعرفة ماذا يقولونه عنه او عن أسرار حياته العائلية وابنته غير الشرعية التي كان يخبئها عن الانظار بشكل مطلق والتي تدعى: مازارين. وهذه الفضيحة أساءت الى سمعة ميتران كثيراً لان النظام الديمقراطي لا يتنصَّت على الناس ولا يحبس أنفاسهم هاتفياً او سرياً كما تفعل الانظمة الديكتاتورية، او هكذا كنا نعتقد..

والآن ابتدأت تنهال علينا من كل حدب وصوب فضائح شيراك! ويبدو انه لن ينام قرير العين طيلة العام القادم: اي حتى خروجه من قصر الاليزيه لان الانتخابات الرئاسية ستحصل بعد عام بالضبط (شهر مايو ـ 2007). فرئيس وزرائه والذي يعتبر ابنه الروحي دومينيك دوفيليبان متهم بانه دبر مؤامرة كاملة للايقاع بمنافسه الاساسي نقولا ساركوزي لكي يشوه سمعته ويزيحه من طريقه ويقضي عليه سياسيا قضاء مبرما. وهكذا يصبح طريق الاليزيه أمامه سالكا..

وتقول الاشاعات بانه استخدم بعض اجهزة المخابرات لتحقيق غرضه «النبيل» هذا. فراحت هذه الاجهزة تتهم ساركوزي بانه يمتلك حسابات مصرفية ضخمة في بنك مشبوه في دولة اللوكسمبورغ الشهيرة والصغيرة جدا والتي تلعب دور سويسرا في وسط اوروبا. ويبدو انه بنك مختص بتبييض الاموال القذرة كما يقال. ومن اين جاءت هذه الاموال غير الشرعية؟ من العمولات التي تلقاها على صفقات الاسلحة او غير الاسلحة مع بعض الدول العربية.. ويقال بان دوفيليبان عندما عرف بالخبر عن طريق المخابرات قال لأحد الصحافيين: الآن امسكت بساركوزي! والله لن تقوم له قائمة بعد اليوم. وكل مستقبله السياسي اصبح على كف عفريت.

والأنكى من ذلك هو ان فيليبان عندما أمر باجراء تحقيقات سرية او بوليسية عن ساركوزي كان زميله في الحكومة ولا يزال! وبالتالي فهي منافسة ضارية داخل اليمين الفرنسي لخلافة شيراك التي اصبحت على الابواب. ولكن هل كل الاساليب مباحة للقضاء على خصومك السياسيين؟ هل يليق بدومينيك دوفيليبان الشاعر الحساس والذي نشر كتابا ضخما وجميلا عن الشعر عن دار نشر «غاليمار» ان يلجأ الى مثل هذه الاساليب؟ هو ينكر ذلك بالطبع ويحلف بأغلظ الايمان بانه لم يفعل ذلك ابدا. ولكن الفضيحة انتشرت ولم يعد يعرف كيف يتخلص منها. ومعلوم ان الاشاعة تقتل احيانا حتى ولو لم تكن صحيحة. ويبدو انها لا تستهدف فيليبان فقط وانما شيراك بالذات من خلاله. فدومينيك دوفيليبان لا يمكن ان يفعل اي شيء هام او خطير بدون علم شيراك. وبالتالي فشيراك اصبح في دائرة الخطر. ويرى البعض ان عليه التضحية برئيس وزرائه وقرة عينه ككبش فداء من اجل حماية نفسه. وهذه طريقة كلاسيكية معروفة في العمل السياسي. فالشظايا لا ينبغي ان تصل الى الرئيس: اي الى قمة السلطة.

لكن لماذا يحقد شيراك على ساركوزي الى مثل هذا الحد؟ لماذا يريد ان يودي به؟

في الواقع ان الخلافات السياسية بين الرجلين ليست هي السبب، فهي هزيلة وضئيلة في نهاية المطاف. فكلاهما ينتميان الى اليمين «الديغولي» الفرنسي في توجهاته العريضة. وبالتالي فهناك سبب شخصي اعمق من كل ذلك. ويرى البعض ان شيراك لم يغفر لساركوزي الاهانة الكبرى التي وجهها له عندما كان عشيقا لابنته كلود شيراك التي تحتل الآن منصبا هاما في قصر الاليزيه، ثم تخلى عنها وذهب الى غيرها. وبالتالي فشيراك كان ينظر في مرحلة من المراحل الى ساركوزي وكأنه ابنه الذي سيرثه سياسيا وعائليا ولكنه غدر به، فلا أحد يترك بنت شيراك! ولكن ربما كان كل ذلك مجرد اشاعات، والله أعلم.

رحم الله الجنرال ديغول الذي ترك السلطة بملء ارادته عام 1946 بعد ان انقذ شرف فرنسا اثناء الحرب العالمية الثانية كما هو معلوم. فقد أذهل وزراءه في أحد الايام عندما دخل عليهم وقال عبارته الشهيرة: لا يمكن للمرء أن يكون رجل الأعاصير الكبرى ورجل الحرتقات السياسية الدنيئة في آن معا! أيها السادة، بدءا من هذه اللحظة سوف أستقيل من كل وظائفي في الدولة وأعتزل العمل السياسي. وبالفعل فقد عاد الى قريته الصغيرة بعد ان شعر بانه غير قادر على اكمال مهمته في جو مليء بالدسائس والمناورات السياسية الصغيرة بين الاحزاب المتناحرة على السلطة. ولم يعد اليها الا بعد اثني عشر عاما لانقاذ فرنسا مرة أخرى من مشكلة الاستعمار الوسخة وحرب الجزائر. ولم يسمع أحد بأنه استغل السلطة لأغراض شخصية أو سرق فرنكا واحدا من خزينة الدولة. معاذ الله! بل ووصل به الأمر أحيانا الى حد انه طلب من مدام ديغول بيع بعض الصحون والاشياء ذات القيمة لتسديد الفواتير وتغطية مصروف البيت.. ولكن ليس كل الناس الجنرال ديغول! اثناء زيارة ابنه الاميرال فيليب ديغول الى الصين قال له احد القادة الصينيين الكبار: شخص مثل والدك لا يظهر في التاريخ الا كل قرن أو قرنين على الاقل.

هذا لا يعني بالطبع ان كل الطبقة السياسية الفرنسية الحالية هي فاسدة! فالواقع انها تحتوي على شخصيات محترمة ونزيهة سواء في جهة اليمين أو جهة اليسار: كفيليب سيفان وفرانسوا بايرو وميشيل روكار وليونيل جوسبان وفرانسوا هولاند وعشرات غيرهم... ولكنهم خارج السلطة. وبالتالي ففرنسا اصبحت بحاجة الى تغيير طاقمها السياسي لمواجهة التحديات الكبرى التي تواجهها وبخاصة أزمة الضواحي الفقيرة التي أخمدت انتفاضتها بالقوة أخيرا بدون ايجاد اي حل جاد لها. وهناك مشاكل أخرى عديدة بالطبع كمشكلة التفاوت الهائل بين الاغنياء والفقراء ووجود خمسة ملايين فرنسي أصلي على حافة الفقر. وهذا شيء لا يليق ببلد الثورة الفرنسية والتنوير الفكري وحقوق الانسان. وفرنسا بلد من أجمل بلدان العالم وحضارة جمعت خلاصة كل الحضارات.. والبلد الذي أنجب كبار الفنانين والفلاسفة والأدباء والشعراء يستحق مصيرا آخر..