إدارة التطرف

TT

إدارة التطرف لا القضاء عليه هي ما يمكن عمليا انجازه في العالم اليوم، وفي العالم العربي خصوصا، ان الذين يدعون الى القضاء على التطرف الديني او حتى العلماني لهم قوم جدد على السياسة ويتمتعون بقدر من التفاؤل والسذاجة الكافية التي تجلب عليهم المصائب. فموضوع التطرف يحتاج الى ادارة mangement، لا الى فلسفة الانهاء evadication، كما ان مسألة ادارة التطرف عندما تطرح على اجندة الدول تسمح بالحوار، اما مسألة القضاء على التطرف فلا بد وان تكون موضع خلاف، استطيع ان اتخيل اجتماعا بين خمس دول عربية مثلا تتقدم احداها بمشروع «للقضاء على التطرف» وتعترض الاخرى قائلة: ولماذا «لا نقضي على الفقر» لانه سبب اساسي في التطرف، وتقول اخرى: لماذا لا نبدأ «بالقضاء على البطالة» لانها سبب في الفقر وفي التطرف، وهكذا، اذن مسألة «القضاء» على اي شيء هو وصفة لعدم العمل، ومن هذا المنطلق اطالب الدول العربية الجادة بتبني خيار ادارة التطرف، ادارة التطرف هي اقرب الى حد كبير الى مسألة ادارة الصراعات لا حلها. وهناك الكثير من الصراعات العالمية المزمنة التي يتعامل معها المجتمع الدولي على انها حالة من ادارة الصراع لا حالة من الحل، والحالة الفلسطينية هي اقرب الآن الى مسألة ادارة الصراع لا الحل، فالفلسطينيون والاسرائيليون وربما العرب ايضا لا يريدون حلا، ولا يعرفون لها حلا، وكلهم قابل بمسألة ادارة الصراع كبديل طالما ان التكلفة مقبولة، بالطبع اعرف ان هذا مثال ربما يثير حنق القراء ولكنه مثل واقعي، فهذا صراع يدار منذ خمسين عاما، ولم يفلت عقاله تماما. حتى الحل الأميركي للدولتين هو ايضا جزء من استراتيجية ادارة الصراع لا الحل.. ولكن ليس هذا مقال عن ادارة الصراع العربي ـ الاسرائيلي، انما الهدف من هذا هو توضيح ما اعني بمسألة ادارة التطرف، ادارة التطرف بالنسبة لي تعني ايصال حالة التطرف الى اقل درجة ممكنة يمكن التعايش معها اي ان لا تزيد على نسبة 10% (عشرة في المائة) من حالة المجتمع والدولة، يمكن ادارتها ويمكن ايضا القبول بأي خسارة تأتي مع هذه النسبة.

بداية في موضوع ادارة التطرف في العالم العربي لا بد وان نقبل ولو على مضض ان موضوع التطرف وربما كراهية الآخر هي جزء اصيل في ثقافتنا، وليس عارضا او طارئا.

«نشرب ان وردنا الماء صفوا، ويشرب غيرنا كدرا وطينا» هكذا يقول الشاعر العربي، انه لا يكفي ان نشرب نحن «الماء صفوا» حتى نكون سعداء، ولكن الذي يسعدنا هو ان نرى غيرنا يشرب كدرا وطينا، او ربما نحن نشرب ماء عكرا ولكن بالمقارنة بالطين الذي يشربه الآخرون يبدو ماءنا صفوا. تركيزنا على سوء احوال الآخر كمصدر للسعادة تجعلنا نغفل أنفسنا وننس اننا ربما لسنا بأحسن حال ممن نراهم اعداء لنا.

هذه الرؤية السائدة في عالمنا العربي هي جزء اصيل من ثقافتنا، كل ما يمكن فعله تجاهها هو تقليل نسبة من يعتنقون هذه الرؤية، وزيادة نسبة من يرون الماء صفوا لانه بالفعل صفو وليس مقارنة بالكدر والطين الذي يشربه الآخر.

الارهاب ايضا ليس غريبا لا على حضارتنا ولا على الحضارات الاخرى. هو جزء اصيل وهناك آلاف الامثلة الشعبية والتاريخية في سلوكنا الحضاري منذ آلاف السنين مما يؤكد هذه الحقيقة. كذب ان نقول باننا قوم متسامحون، اذ يجب اولا ان نعترف بانه حتى في حالة الاسلام هناك مسألة تفسير هذا الاسلام، وهناك المتسامحون من المسلمين ممن ينتجون تفسيرات تقبل بالآخر وتسهل الحياة، تيسر ولا تعسر، جماعات طيبة من المسلمين تنتج لنا اسلام الناس العاديين، وهناك جماعات اخرى تفسر الاسلام على طريقتها العنيفة، هؤلاء المتطرفون هم من يصنعون الاسلام العنيف، مقابل اسلام الناس الحنيف، هناك الاسلام العادي مقابل الاسلام المخصب، في هذه الحالة ايضا يجب ان نتبنى مسألة ادارة التطرف لا القضاء عليه، علينا ان نقوي من الاسلام الحنيف حتى ينحسر الاسلام العنيف، علينا ان نوسع دائرة اسلام الناس الطيبين حتى تتضاءل مساحة الاسلام المخصب. اما محاولة القضاء على الظاهرة فهي امر غير واقعي وغير عملي. الدول العربية التي تتبنى سياسة القضاء على الارهاب او على التطرف ربما تصاب بخيبة امل، لأنها اولا وعدت شعوبها بأشياء لا يمكن انجازها، على الحاكم الرشيد ان يقلل من سقف التوقعات حتى اذا ما زاد عليها زاد ذلك من شرعيته في نظر شعبه، اما اساس المشاكل وأم البلاء هي تلك الفجوة ما بين الوعود والنتائج، ما بين الموعود والممكن، هذه الفجوة بين الافكار والاعمال هي بداية فقدان الثقة بين اي شعب ونظام حكمه.

اذن المطلوب من الدول العربية المعتدلة لا المجنونة هو تبني استراتيجية واقعية في التعامل مع ظاهرة التطرف، اي القبول بمسألة ادارة التطرف لا القضاء عليه، القبول ايضا بان التطرف جزء لا يتجزأ من حضارتنا، فبداية العلاج تبدأ بتشخيص المرض، اذا ما اعترفنا بأن مجتمعاتنا مريضة بهذا السرطان، هنا يمكننا الدخول الى مرحلة العلاج، من «الكيمو ثيربي» او العلاج الكيماوي الى وصفات الاطباء المختلفة، اما اذا اصررنا على اننا لسنا بمرضى فمعنى ذلك ان مجتمعاتنا ودولنا وحضارتنا قد تموت، والحضارات مثلها مثل البشر تموت، وكذلك الدول تموت، وتموت المجتمعات ايضا، اذ ماتت حضارة الفراعنة وحضارة الانكا وحضارة الرومان، وكذلك ماتت الدول وماتت مجتمعات، وكذلك ولدت دول مثل غواتيمالا واسرائيل وغيرهما. الدول تموت وتحيا ايضا، ولكن سر الاستمرار هو القبول بأن هناك مرضا ينخر في الدولة يجب علاجه، ولا داعي لسماع زفة من الكذابين الذين يشيرون الى الحاكم بأن كل شيء على ما يرام.

ادارة التطرف هي البداية الصحيحة للتعامل مع زيادة نسبة الاسلام المخصب الذي بدأ ينتشر في المنطقة، ادارة التطرف هي التي تجنب دولا مثل مصر والاردن والسعودية خطر الاخوان ومن على شاكلتهم ممن يؤمنون بالاسلام المخصب، ومن يؤمنون بالقضاء على الآخر.

لا بد لهذه الدول ان تطرح بديلا لرؤية الاسلامويين الذين يريدون هدم الكيانات السياسية القائمة، لا بد لهذه الدول ان تحاصر ظاهرة الانتحاريين، خصوصا ممن يروجون لها وهم في ارذل العمر بدعوى محاربة الاعداء وهم يتربصون بالنظام العربي القريب.

ادارة التطرف هي الحل لا القضاء على التطرف، لأن في القضاء على التطرف اخذا بالشبهات يزيد من قوى التطرف لا يحاصرها. التطرف سرطان انتشر في بلداننا ولم تعد لدينا القدرة للقضاء عليه، فهل لنا ان نديره بشكل افضل؟.. اتمنى ذلك.