وماذا بعد؟

TT

أودُّ أن أبدأ اليوم بالحديث عن اختيار الخبر الإعلامي الذي ينتشر ليعطي صورة عن ذاك الشعب، أو تلك الدولة، فالعالم مليء بالأخبار السلبية والإيجابية. والسؤال هو من الذي يختار السلبي عن طرف ما، والإيجابي عن طرف آخر ليظهره وكأنه الحقيقة الوحيدة المتاحة، وينتج، حتى من مجرّد الاختيار أحياناً، تضليل إعلامي يصعب تقويمه دون جهود جادّة. وغالباً ما يتمّ إشغال متلقّي الأخبار بمواضيع لا يعلمون نسبة أهميتها على أرض الواقع، أو بالنسبة للجزء الذي لم يكتمل أو لم يُذكر بتاتاً، والذي قد يكون هو الهدف أصلاً من إثارة الخبر. فمثلاً، وعلى غفلة من التاريخ بدأنا نسمع بمشكلة ما بين القبائل في دارفور، والسودان تصرّ أن هذه المشكلة قديمة قدم القبائل نفسها وأنها تتصاعد حيناً وتختفي أحياناً وأن أصابع خفيّة فقط هي التي نقلتها إلى الدائرة الساخنة للأخبار العالمية، لا من أجل التوصل إلى حلّ للمشكلة طبعاً، ولكن من أجل أهداف أخرى ترتكز على معلومة مفادها أن دارفور تسبح على بحر من النفط وأنها غنية باليورانيوم وأنّ مساحتها أكبر من مساحة فرنسا، وأنّ السودان كبلد عربي مثله مثل البلدان العربية الكبيرة الأخرى، مطلوب تجزئته وتقسيمه وإضعافه في إطار المخطط الإسرائيلي الشامل الذي تنفّذه الولايات المتحدة حالياً لتفتيت الأمّة العربية.

وفي حالة اختيار خبر آخر على سبيل المثال لا الحصر، تمّ تمرير استقالة جيم ولفنسون رئيس البنك الدولي السابق والمبعوث الأمريكي إلى الأراضي المحتلّة، دون التركيز على أنّ سبب استقالته هو احتجاجه الشديد على قطع المساعدات الأمريكية والأوربية عن الشعب الفلسطيني، الذي لم يرتكب ذنباً سوى أنّه انتخب حكومته بشكلٍ ديمقراطي. ولكنّ المتابع الحثيث يحتاج إلى بحث متأنٍ كي يتوصل إلى حقيقة أنّ استقالة ولفنسون كانت نتيجة قناعته، أنّ الإجراء الأمريكي والأوربي يعني أخذ الملايين من الأطفال والنساء الفلسطينيين، رهينة بهدف تنفيذ مخطط سياسي يستهدف إسقاط حكومة حماس المنتخبة ديمقراطياً، وسيدفع ثمنه الشعب الفلسطيني كما دفع مليون طفل عراقي ثمن الحصار الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق. وفي مظاهرة حاشدة عن سوء الوضع الاقتصادي وتدهور الأوضاع المعيشية في بيروت، تستنتج وكالات الأنباء أنّ أحزاباً بعينها حشدت هؤلاء المتظاهرين لأهداف سياسية، بينما حين تظهر مظاهرة من الطرف المقابل تكون «تعبيراً عفوياً» عن إرادة الجماهير التي يجب أن تُحتَرَم، وعن حقوق الإنسان التي يجب أن تُصان، وقد وصل التلاعب الإعلامي بمن خرجوا مؤخراً في بيروت يشكون سوء المعيشة إلى وصفهم بأنهم يشنون حرب كلمات! وفي فلسطين المحتلة حين قتلت إسرائيل منذُ أسبوع ـ من ضمن من تقتل يومياً ـ ثلاثة شبّان فلسطينيين، أتى السبب بأنهم «مشتبه بهم بالتخطيط لمهاجمة إسرائيل»، أما سورية فهي متهمة بمحاولة الحصول على السلاح، أما من يحتل أرض سورية ويصنّع آخر أنواع الأسلحة ويفتك بها أطفال وشبان فلسطين، فلا تتطرق الأخبار إلى جرائمه.

وفي ظلال كلّ هذا توصف أبشع جريمة ترتكب بحقّ شعب بكامله، وتفرض عليه أقسى أنواع العقوبات الجماعية بأنها مقاطعة «لحماس» أو «لأفراد من حماس»، بينما هي في الواقع جريمة منع الطعام والأدوية وسبل الحياة من الوصول إلى شعبٍ كاملٍ، نتيجة العقوبة الجماعية التي تفرضها سلطات احتلال بغيض عليه، هي جريمة وللأسف تشارك فيها العديد من الدول التي تريد إقناع العرب بالديمقراطية!

في ضوء معضلة اختيار الخبر وصياغته والترويج له واحتمال تناقض كلّ ذلك مع أبسط أسس العدالة وحقوق الإنسان، قرّرتُ اليوم أن أقدّم قراءتي لحقيقة ما يجري للعالم العربيّ بغضّ النظر عن مهارات الاختيار والتضليل الإعلامي الماهر، الذي قد يضع الأمور في غير نصابها. لقد أصبح واضحاً اليوم أنّ المنطق الذي يتحكّم بالعلاقات الدولية، هو منطق غطرسة القوّة الغاشمة، وأنّ الطاقة تشكّل محركاً حقيقياً للأحداث الدولية، وأنّ التوصّل إلى الأهداف الاقتصادية والعسكرية يتمّ في كثير من الأحيان عن طريق أجهزة الاستخبارات، التي تحظى اليوم بتمويل ودعم غير مسبوقين في الغرب بحجّة مواجهة التطرّف ومحاربة الإرهاب. كما أصبح واضحاً أيضاً أنّ الديمقراطية والحريّة والاستقلال ليست ثمرة تطبيق نظم أخلاقية أو شرائع سماوية أو قرارات دولية، بل انّ الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان أصبح المفتاح لاستهداف المستضعفين الذين لا يملكون أدوات الدفاع عن أنفسهم ولا يمتلكون معادلة تهديد الآخر بشيء. وقد ثبت هذا إبان الحرب على العراق التي شُنّت في الوقت الذي صرّحت فيه كوريا الشمالية عن امتلاكها السلاح النووي، ولكنّ مشعلي نار الحرب أدركوا أنهم لا يستطيعون توجيهها تلك الوجهة، لأنّ ذلك سيكون مكلفاً جداً لهم، أما العراق فقد تمّ احتلاله بعد حصارٍ دام عشر سنوات، وفقط حين ظهر أن الاحتلال مكلف سياسياً ومادياً ارتفعت بعض الحناجر للحديث عن كلفته وما إذا كان دفع هذه الكلفة مبرراً. ومنذ ذلك الوقت والأخذ والجذب سارٍ مع إيران، وما كان الغرب ليتردد اليوم باتخاذ قرار لضرب إيران، لولا إدراكه أنّ إيران، تمتلك من الوسائل لإلحاق الأذى به ربّما بما يفوق الثمن الذي يريد الغرب فرض دفعه على إيران. بينما يفرض الغرب نفسه، قراراته وإرادته على دارفور والعراق وفلسطين دون أي حساب لثمن يدفعه. يستنتج من كلّ هذا أنّ حسابات الحرب والسلم تتمّ من خلال دراسة دقيقة للثمن من ربح وخسارة، بعيداً عن أي اعتبار لحياة البشر وسلامتهم وأمنهم، وبعيداً عن احترام حقوق الشعوب وسيادة الدول. ومن هنا أتى خطاب فلاديمير بوتين الأخير مدركاً بعمق لهذه المعادلة، ومنوّهاً بعقلية العودة إلى الحرب الباردة وعقلية سباق التسلّح، ومذكّراً بعوامل القوّة التي تمتلكها روسيا ليس بما يخصّ روسيا فحسب، وإنما بما يخصّ إيران والشرق الأوسط والوضع الدولي. والقراءة الدقيقة لهذا الخطاب سوف تردع نائب الرئيس الأمريكي من أن يركز هجومه وانتقاداته لروسيا، كما فعل قبل فترة وجيزة، حيثُ اعتبر خطاب بوتين رداً على استفزازات تشيني وتحجيماً لخياله الجامح.

ومن هنا فانّ أولويات كلّ شعب، لا بدّ أن تنبع من الحريصين على مصلحته والمدافعين عن حقوقه من أبنائه، وليس من أطراف تقدّم العون كثمن لشراء الخيار السياسي، أو لإيهام البعض أنهم حلفاء دائمون بينما هم أدوات مؤقتة لتنفيذ حساب معيّن يحقق الربح لغيرهم والخسارة الدائمة لهم. وإذا ظنّ أحد أنّ أحداً ما يدقّق الحساب لتحقيق الربح له، فلا شكّ أنه واهم أو حالم أو مخدوع. وقد وصل الحال ببعض العرب أنّ مفكرين أجانب بدأوا بحثهم لفرز أولوياتهم بعيداً عن حسابات الغرب. فها هو مايكل يونغ يكتب في «الديلي ستار» انّ «القضايا اللبنانية ليست أولوية مؤسساتية في باريس أو في واشنطن». كما أنّ توحيد التهم لمن تركّز عليهم واشنطن الأضواء السلبية، لن ينقذ موجهي هذه التهم من نصيبهم في حسابات الربح والخسارة. أما كارهو الذات من حاملي الأقلام وصانعي الأفلام ضدّ دينهم وهويتهم وثقافتهم، فلن تكسبهم احترام الآخر ولن تساهم في خلق حوار أو حلول. وإذا فرح بعض الكتّاب من أمثال الكاتبة الصومالية المسلمة آيان هيرسي علي بنشر كتابها «العذراء في القفص في نيويورك» فإنّ هذه الاختراقات لن تشكّل ظاهرة، بل تبقى زوبعة لا قيمة لها في فنجان الحياة الأبقى.

من كلّ هذا نقول يجب أن نكفّ عن نشر صور الرجال والنساء الذين يبكون على جثث الأقرباء والأصدقاء، لأنّ قتل العرب مباح اليوم، وأن نكفّ عن النأي بأنفسنا من منظر الإذلال الذي يتعرّض له العرب والمسلمون، وألاّ نرجو صحوة أخلاقية من أحد. فكلما انتهوا من أزمة مختلقة أبدعوا في اكتشاف أخرى، تخدم حسابات الربح لديهم. فالحياة هي للأقوى، ولمن يحترم أرضه وشهداءه وحقوقه، وكلّ من يقول غير ذلك في عالمنا العربيّ يراهن على إنقاذ الآخرين له. الآتي هو استمرار لإجراءات لا سابقة لها بحقّ العرب من فلسطين إلى العراق ودارفور، ولا جواب على ذلك سوى أن يكون الآتي من العرب هو الفهم الدقيق لمعادلة الربح والخسارة، وفق منطق القوّة والذي هو المنطق الوحيد الذي يتحكّم بأوجه العالم اليوم.