ما أصعب أن تفهم المجتمع المصري

TT

إذا كان فهم الإنسان من اشد الأمور تعقيدا وصعوبة فإن فهم المجتمعات وخصوصا العربية منها تحديدا، يشكل العقدة ذاتها. وليس من قبيل الصدفة أن تكون أغلب ردود أفعالنا على ما يقال ويحدث اليوم في بلداننا تنحصر في الاستغراب والتعجب كانفعالين يعكسان وجود حواجز مانعة لتحقيق التقبل العادي الذي ينسجم مع المنطق وطبعا التناقض سمة من سمات الطبيعة وبالتالي الإنسان والمجتمعات ولكن عندما يبلغ التناقض حدا معينا ويطل على اللخبطة ويصبح اللامنطق الوجه الأكثر تعبيرا عن واقع التناقض الحاصل، فإن الوضع يتعدى المستوى الطبيعي إلى ما سواه .

ولأن الشيء عادة بنقيضه يذكر فإن دعوة نوال السعداوي وابنتها منى حلمي الأخيرة ذكرتني بشكل آلي وسريع بدعوة المصرية هيام دربك.

فالأولى منى حلمي كتبت «من اليوم سأحمل اسم أمي» أي أنها أعلنت انتسابها إلى والدتها نوال السعداوي عوضا عن أبيها. أما الثانية صاحبة الدعوة إلى تعدد الزوجات، فإنها أسست جمعية خيرية مصرية في أبريل 2004، شعارها «زوجة واحدة لا تكفي» معللة ذلك بقولها إنها حل للعنوسة التي بلغت 9 ملايين عانس وأن تعدد الزوجات يهدف إلى مساعدة الزواج وإقناع الرجال ميسوري المال بالزواج من شريحة الأرمل والعوانس والمطلقات لحمايتهن من الانحراف وتحقيق التنمية الاجتماعية. بل أن هيام دربك تدعو إلى تعميم الفكرة في المجتمعات العربية بتأسيس فروع للجمعية في العراق وفلسطين والإمارات والسعودية. ظاهريا قد يبدو أنه لا رابط بين المثالين وأنهما على طرفي نقيض ولكن أطالة التفكير في المثالين معا، قد تقودنا إلى بعض الفهم خصوصا أننا أمام ظاهرتين اجتماعيتين رغم تناقضهما الفكري الصارخ، فهما من نتاج نفس المجتمع: مثال يحملنا إلى آخر نقطة في الوراء وآخر يطير بنا إلى أعلى شطحات اليسار العربية. ومن المؤكد أن مرور مثل هذه الدعوات وإحداثها الضجة الاجتماعية وتصدر اهتمامات الرأي العام المصري إبان إطلاقها يشير إلى أن الفكر حول المرأة في مصر اليوم يعيش فراغا وأن إسهام الفكر النسوي العقلاني والعميق ليس بالقوة التي تسد الطريق أمام الفرقعات والدعوات التي لا نجني منها غير التشويش.

والمشكل أن كلا من منى حلمي وهيام دربك تدعي النضال في مجال حقوق المرأة وأنها تفكر لصالح المجتمع المصري في حين أنهما دليلان قاطعان على عمق اللخبطة الثقافية والفكرية التي يعيشها المجتمع المصري. وبلفت النظر عن خلفية كل واحدة، فإن السؤال البراغماتي القادر على تحويل وجهة التقييم، هو ما جدوى مضمون الدعوتين عمليا وأي مطلب تلبيه كل من الدعوتين؟ بالنسبة إلى منى حلمي كان من الممكن أن تكتفي بمبادرتها وجعلها لا تتجاوز إطارها الفردي فنتعامل معها كتقليعة خاصة لا شأن لنا بها. أما أن يتحول الأمر في مسألة لا رأس لها ولا مبررات إلى تنظير الاجتماعي يصب في خانة النشاطات في مجال حقوق المرأة في مصر فهو أمر يشبه العبث.

وإضافة إلى أن الشرع كما هو معرف أقر بنسب الأبناء للأب حفاظا على عدم اختلاط الأنساب أي لتنظيم السلالة وفق معايير مضبوطة، فإن سياق هذه الشطحة قد يحولها إلى قارب نجاة بالنسبة إلى فئة معينة.

وأقصد بذلك ضحايا الزواج العرفي في مصر وآلاف قضايا النسب المرفوعة في المحاكم المصرية فيصبح الحل «السعداوي» تشجيعا لمحو مشكلة الانتساب من الأب من خريطة المشاكل، وتزال بذلك المحاذير الاجتماعية التي لها بعض الايجابيات. والأجدى لو ركزت السعداوي على مطالبتها إصدار قانون، يؤكد على أن كل طفل يولد هو طفل شرعي بصرف النظر عن شكل العلاقة بين الأب والأم.

إن هذا الطلب مهم وينخرط ضمن خدمة حقوق الإنسان بشكل إنساني صرف. ولكن أن يتحول ذلك الطلب إلى مسألة ثانوية في ضجة لهيبها الأول والأساسي استبدال الانتساب إلى الأب بالانتساب إلى الأم، فهو ما يدل على التخبط داخل الدعوة نفسها والاستنجاد بضجيج يضر ولا ينفع. وطبعا نعرف أن طريقة السعداوي تقوم على الصدمة وهي طريقة مهمة في نقد الثوابت وإعادة صياغة المنظومة القيمية، ولكن المشكل أن السعداوي في دعواتها الأخيرة خاصة تجاوزت جرعة المبالغة التي يشترطها إحداث الصدمة إلى التطرف المضاد. ذلك أنها تقفز على أولويات المجتمع المصري وتحارب السلطة الذكورية بشكل تسعى فيه لا إلى معالجة تورمها بل إلى نفيها ونقل السلطة المتورمة إلى المرأة أي أنها تؤسس لظهور «سعداوي» رجل في المستقبل القريب يشن حربا على الأنانية النسائية. أما الأولى أي هيام دربك صاحبة الدعوة إلى تعدد الزوجات في إطار التنمية الاجتماعية للمجتمع المصري فإنها نسيت أن التنمية والتخلف لا يضعان اليد في اليد.

وبعيدا عن أي محاكمة فكرية والتي يغنينا عنها الواقع المصري ذاته، فإن الناظر في مشاكل الشعب المصري وأولوياته والأوضاع التي تعيشها المرأة المصرية طالبة وزوجة وكفاعلة اجتماعية، يجد أنها أبعد ما تكون عن فرقعات السعداوي وابنتها وهيام دربك.

[email protected]