العراق.. صراع غير متكافئ بين المعقول واللامعقول!

TT

هذا هو العراق، فيه مَنْ يخترع طريقة لتوليد التيار الكهربائي، ومَنْ يغامر بحياته مكافحاً غسيل الأموال القذرة، التي تدخل سلاحاً لعصابات الموت، أو أدوية فاسدة، وتخرج نقداً صعباً، وفيه مَنْ يفتي بتحريم لعبة كرة القدم، طلباً للتفرد بالتهاليل! لما للاعب الكرة من حظوة لدى الجمهور.

وقد شاع من قبل، ونُسب إلى رجل دين مشهور أنه أفتى بتحريم ركوب القطار «أتتركون حَمير الله وتركبون الشمندفر». إنه صراع محتدم وغير متكافئ على الدوام ما بين المعقول وأعوانه النخبة وبين اللامعقول وأعوانه الدهماء.

يذكر خبير اقتصاد النفط فاضل الجلبي أنه، بعد دهر طويل، ألتقى بأستاذه المصري مصطفى كامل، أستاذ القانون الدولي في كلية الحقوق ببغداد، في إحدى حدائق فيينا، وقد بلغ من العمر عتياً. قال له لما ذكره بتلمذته على يده: «انتم العراقيون أذكياء.. بس مجانين».

إشارة إلى ما حل بالعراق من ممارسة اللامعقول إلى جانب ما يحوي من أهل الألباب، وما يمتلك من أرباب الأقلام.وللشاعر العراقي علي الشرقي (ت 1964) بيتاً قاله متألماً من هذه المفارقة «ما رأيت في العراق ليلى.. لكنني في كل آن أمر في مجنون»، وهي شكوى من سريان اللامعقول.

ومن مظاهر اللامعقول أيضاً مخالفة القاعدة الفقهية، التي تحبذ التوسط في الأمور، «لا إفراط ولا تفريط»، التي من المفروض يقلدها سواد العراقيين، وبهذا يشار إلى العراقي أنه «يُسرِف في شُحه والنَّدى».

وقبل محمد مهدي الجواهري قالها الوليد بن عبد الملك (ت 96هـ) لعراقي كان يحمل لبنتين بينما تحمل الناس لبنة واحدة لبناء مسجد دمشق: «يا أهل العراق، تفرطون في كل شيء» (الطبري، تاريخ الملوك والأمم)! ولولا الإفراط وتفريط في التحزب والتمذهب والاكتناز الشخصي، وتأكيد مصلحة الجماعات منفردة لا الجامعة العراقية مجتمعة، لقفز العراق في الأعوام الثلاثة الماضية إلى مستوى قمة الهرم، رغم الإرهاب والاحتلال.

مصطفى كامل ليس الأول في تشخيص الذكاء العراقي وجنونه، بل المقولة السائرة «القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ» وردت اعترافاً لعاصمة بني العباس، ذات الأُصول البابلية، بفضيلة البحث والتعلم.

فمن الاعتراف الصريح لأهل العراق بالذكاء ورد في المأثور: «أن إبراهيم، عليه السلام، همَّ أن يدعو عليهم فأوحى الله تعالى إليه: أن لا تفعل فأني جعلتُ خزائن علمي فيهم». و«قيل للعلم: أين تريد؟ قال: العراق. قال العقل: وأنا معك».

واشتهر عن ابن بحر الجاحظ (ت 255هـ)، وهو البصري الزنجي، ربطه بين عصيان أهل العراق وكثرة تنقيبهم وبحثهم، والنص يبدو قد سقط من كتب الجاحظ، فوصل إلينا عبر صاحب «شرح نهج البلاغة» ابن أبي الحديد (ت 656هـ).

ولربما شغفاً بالمقولة جعلها علي الوردي اقتباساً من «البيان والتبيين»، وهي ليست كذلك. ولابن أبي الحديد مثل هذا الكلام. وأهل العراق، حسب أبي الحسن المسعودي (ت 346هـ): «أهل العقول الصحيحة والشهوات الممدوحة، والشمائل الموزونة، والبراعة في كل صناعة ... وذلك لامتزاج صقعهم من حر الجنوب وبرد الشمال ... فاجتمعت فيهم محاسن جميع الأقطار... وكيف لا يكونون كذلك وهم أرباب الوافدين وأصحاب الرافدين» (التنبيه والأشراف).

ولا يسمع حريص ومنصف، من أنساب العرب والعجم، بما آلت إليه أحوال العراق من سوء، بداية من حرب الدفاع عن (البوابة الشرقية)، إلى الحرب من أجل الوحدة العربية باحتلال الكويت، إلى عصابات الإرهاب والفساد إلا وتواردت خواطره مع خواطر الجاحظ والمسعودي، وفي ما اعترض به الفرزدق (ت 110هـ) على قرار يزيد بن عبد الملك (ت105هـ) القاضي بتعيين أمير يراه الشاعر غير مناسب: «أأطعمتَ العراق ورافـديه.. فـزارياً أحذّ يـد القميص .. تفهق بالعراق أبو المثنى.. وعلم قومه أكل الخبيص» (المبرد، الكامل في اللغة والأدب).

فكم أحذ يد القميص تسيد على العراق ورافديه من بعد! كانت ثروات العراقيين، قبل النفط: النخيل، والاخضرار إلى حد السواد من إبداع عقولهم وصنع أيديهم. ويبقى عصياً على الفهم، كيف تؤول مصائر بلد يحوي كل مناهل الثروة، ونزله العقل، إلى هذا الخراب!

هناك مَنْ يحسب ذكاء العراقيين ابتلاءً عليهم، حتى شاعت نظرية المؤامرة على العقل العراقي، لتفسير مقاتل الأكاديميين والأطباء وبقية أهل المعرفة، فقيل إسرائيل وأمريكا تخشيا من استقلال وحرية هذا العقل. ولا بد من تقسيم «الوسط الذهبي».

وأن صح ذلك، أليس هناك داخل العراق مَنْ يسعى لتفتيت هذا الوسط، ويخشى ثمرة هذا العقل؟ الوسط الذي أنتج مجتمعاً ما أرخ له ابن أبي بكر الكاتب «لا تعجبنْ من عراقيٍّ رأيت له.. بحراً من العلم أو كنزاً من الأدب» (يتيمة الدهر).

من انتكاسات هذا العقل، أن جماعة هيمنت على وزارة الكهرباء فعادت بالبلاد إلى عصر الفوانيس والتعاويذ. وأخرى هيمنت على وزارة الصحة فأحاطت مستشفياتها بالسواد، وعلقت فوق رؤوس المرضى ثلاث صور، بدلاً من واحدة.

ولا ينكر أن كل ذلك جرى ويجري بمحاصصة فيها ملمح من ملامح سياسة وزير السلاجقة نِظام المُلك (قتل 485هـ) في توزيع الأراضي، عندما وزعها على إقطاعيات عسكرية، وكل قائد وأمير حر بأرضه وفلاحيه، واستمر الحال حتى ألغاها الخليفة المستنجد العباسي، فكانت عقوبته القتل خنقاً في الحمام (566هـ). لهذا يجري العراك حول وزارة النفط، فمَنْ يملكها أمسك بعصب العراق! ويُصدر الذهب الأسود عبر أنابيب وسفن بلا (عدادات) تحسب البراميل.

المأساة كل المأساة أن يمازج الديمقراطية فعل اللامعقول، ويكون أمرها والعراق كمَنْ قال: «سارت مشرقةً وسرتُ مغرباً..شتان بين مشرق ومغربِ».

وحتى لا يستولى علينا اليأس، هناك مَنْ يقف، مقابل غلبة اللامعقول وسريانه، على الضفة الأخرى حملة إرث الذكاء القديم، يساندهم علماء دين يفكرون في النور، ويلتزمون بقاعدة «لا إفراط ولا تفريط» بضمير سليم. ليس لهم حصة بين الدهماء وتجار الوهم.

يرون شأن الكهرباء وتسيير شؤون النفط وصحة الناس وزراعة الأرض شؤوناً دنيوية، لا تستورث لجماعة شأنها شأن الأوقاف. لا يمتلك أصحاب هذا التيار ميليشيات ولا فصائل حماية، ولا مناصب مؤثرة، بل أكثر من هذا استوعبوا التهديد بقطع الأعناق وقطع الأرزاق، ومع ذلك تراهم مستميتين من أجل إحلال المعقول.

[email protected]