حينما أجهشت بالضحك

TT

ذهبت في سنة من السنوات إلى زيارة (مدائن صالح)، وهي بقعة شاسعة من الأرض لا تقلّ مساحتها عن ثلاثة ملايين متر مربع، وهي عبارة عن عشرات المنحوتات الصخرية التي قد تكون بيوتاً أو قبوراً برع في هندستها (الأنباط)، وهم عرب سيطروا على شمال الجزيرة العربية، وكوّنوا حضارة مرموقة قبل ميلاد المسيح بمئات الأعوام.

أقول بينما كنت جالساً بأمان وسلام في الكرسي الأمامي لسيارة (الجمس)، وكان يتولى القيادة أو السياقة الدليل الذي يُفترض فيه أن يشرح لي ما خفي عليّ من ألغاز تلك الحضارة، وكان رجلاً وقوراً ومكتنزاً، له حضور جيد، وثقافة لا بأس بها، ولا يملك من يشاهده إلاّ أن ينفحه شيئاً من الاحترام، لهذا كنت طوال مسيرتنا أنفحه بين الحين والآخر جرعات من الاحترامات الصغيرات، بل إنني بادلته أحياناً بعضاً من الطرائف والنكات المؤدبة التي لا تخدش الحياء، وكدت في مرة من المرّات أتورط وأروي له نكتة موغلة في سوقيّتها وتبرّجها، غير أنني في آخر لحظة استطعت ولله الحمد أن ألجم جماح نفسي، وأن أوقف لساني غير العفيف في الوقت المناسب، ورغم أنه ـ أي لساني ـ أخذ (يحكّني) ما لا يقل عن ساعة كاملة، يريد أن يحكي تلك النكتة البذيئة، لكنني كنت طوال تلك الساعة واقفاً له بالمرصاد بعزيمة لا تلين، إلى درجة أنني بعدها أعجبت بإرادتي الصلبة، بل إنني امتدحتها علناً، عندما قلت بدون أي تواضع اسأل ذلك الرجل الوقور: هل مرّ عليك إنسان يحمل مثل صفاتي الحميدة، وكياستي، وعلو شأني وهمّتي وأخلاقي؟!، فأجابني بنبرة خافتة بعد أن أشاح بوجهه عني: لا أبداً، فقلت له: الحمد لله، وران علينا صمت مطبق دام أكثر من عشر دقائق، وفجأة وإذا بصوته ينفجر بالبكاء المرير، و(الدركسون) يضطرب بين يديه المرتعشتين، وأخذ يجهش، ويجهش، وكلما زادت جهاشته زادت حيرتي و(وَكستي)، وأخذت أسائل نفسي إن كانت قد بدرت مني غلطة جعلت هذا الرجل الفحل الضخم الفخم يتحول فجأة إلى طفل تسيل (سعابيله) على صدره، الواقع إنني شعرت بأن كارثة قد (تطربقت) عليّ بدون سابق إنذار، ووقعت في (حيص بيص)، فماذا أفعل بهذا (الشحط) في هذه المتاهة الصحراوية، وكيف أوقف بكاءه وجعيره الفجائي المتواصل؟!، هل (أسد) عليه؟! لكن كيف ومن أين أسد عليه؟!، حاولت أن أسأله عن السبب أو الخبر أو الموقف الذي أجبره على ذلك البكاء، لكن صوتي ضاع في خضمّ نحيبه، وكلما مددت له مناديل (الكلنكس) أخذ يرمي بها من نافذة السيارة بدون أن يمسح بها دموعه التي أغرقت لحيته، ولا أريد أن أطيل عليكم فهذه الحالة أو الجو (الدرامي) استمر في حدود دقيقتين، وفجأة توقف عن البكاء مثلما بدأ، وكأن شيئاً لم يحصل، غير أنه التفت لي وسألني: لماذا لم تبك؟!، قلت له: ولماذا أبكي وأنا قبل أن تجهش كنت أكاد أطير من شدّة الفرح؟!، قال: ألم تسمع بالحديث الشريف الذي يحضّنا على البكاء والتباكي كلما مررنا بهذا المكان لكي نعتبر؟!، قلت له: والله العظيم إنني لم أسمع به إلاّ منك الآن، فهل تريدني أن أبكي؟!، قال: طبعاً، حاولت أن أبكي، لكنني لم استطع، حاولت أن أتذكر كل المنغصات في حياتي علّها تستدر دمعي، لكن (ما فيش فايدة)، فقلت له: إنني لا أستطيع؟!، فقال لي إذن تباكى مثلما تباكيت، فانفجرت أمثّل وأتباكى، وفجأة أوقف السيارة، وقال لي: إن تباكيك هذا يشبه الضحك، فإما أن تتباكى صح، وإلاّ لن أسير معك، فقلت له: يا أخي، يا سيدي، يا تاج راسي، إنني لا أعرفك وأنت لا تعرفني، ربي هو الذي خلقني هكذا، فكلما حلّت المصائب على رأسي أضحك، إلى أن أدوخ من شدة التعجب.

[email protected]