استراتيجية أردوغان في قيادة «العدالة والتنمية» التركي

TT

شأنهم شأن كل الممثلين الموهوبين يدرك الساسة الذين يصيبون نجاحا وعظمة، الوقت المناسب للمغادرة وإفساح المجال لغيرهم. أما الذين لا يحسنون اختيار الوقت المناسب للخروج، فدائما ما يعاقبهم التاريخ، وفي غالب الأحيان على نحو قاس. لذا، لم يكن مستغربا ان يبدأ رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان استعداداته للمغادرة بنفس التصميم الذي خاض به معركة الوصول الى الحكومة.

لا بد في البداية من التأكيد على أن حزب العدالة والتنمية، الذي يتزعمه اردوغان، هو أول حزب إسلامي معتدل يكسب أغلبية برلمانية في الانتخابات العامة في تركيا. ويعد حزب العدالة والتنمية أول حزب تركي يشكل حكومة من دون ائتلاف مع حزب آخر. والأهم من ذلك أن يعتبر اردوغان أو سياسي تركي لا يواجه تحديا حقيقيا من داخل معسكره لأول مرة منذ عقود.

يضاف الى ما سبق أن سجل اردوغان في رئاسة الحكومة مثير للإعجاب والاهتمام بكل المقاييس على نحو يجعل الشخص يتساءل مندهشا عن السبب في تفكيره في التنحي. إلا ان الاجابة بسيطة: شأن كل الأحزاب التي قضت سنوات طويلة في السلطة، ربما بات حزب العدالة والتنمية يواجه تراجعا في حظوظه الانتخابية.

وصل حزب العدالة والتنمية الى السلطة قبل اربع سنوات بعد ان حصل على نسبة 34 في المائة من اصوات الناخبين. وبفضل النظام الانتخابي المعمول به في تركيا، حصل الحزب على ثلثي المقاعد في البرلمان غداة تلك الانتخابات التي فشلت فيها الأحزاب العلمانية، باستثناء حزب واحد، في الحصول على مقعد واحد في الجمعية الوطنية.

استفاد معظم قادة الأحزاب العلمانية من ذلك الدرس، إذ بدأ مسبقا زعيم حزب الشعب الجمهوري، دينزيل بايكال، العمل ضمن ائتلاف عريض يضم احزاب يسار الوسط لخوض الانتخابات العام المقبل. حزب الوطن الأم، الذي بدأ بقيادة الراحل تورغوت اوزال عملية تحديث اقتصادي وسياسي في تركيا خلال عقد الثمانينات، يعمل الآن ايضا وفق استراتيجية اتحاد تحت قيادة زعيمه الحالي اركان ميمسو. وربما يتمكن حزب الوطن الأم، المحسوب على يمين الوسط، من التوصل الى مشروع مشترك مع حزب الطريق القويم بقيادة محمد اغار، وهو من الأحزاب التي تأمل في الفوز بأصوات الناخبين المحسوبين في خانة يمين الوسط.

لا أحد يعلم حتى الآن ما اذا سيصبح التحالف العريض المناوئ لحزب العدالة والتنمية واقعا ماثلا في الساحة السياسية التركية. إلا ان غالبية المراقبين للشأن التركي ترى ان هذا الحزب لن يفوز في الانتخابات العامة المقبلة بعدد كاف من الأصوات يسمح له بتكوين حكومة وحده. ويبدو أن أردوغان نفسه يرى ذلك. لذا فهو يعتقد ان أمامه أقل من 18 شهرا لتأمين مواطئ أقدام كافية لحزب العدالة والتنمية داخل بنية السلطة في تركيا.

ومن أجل انجاز ذلك الهدف بدأ ملء ما يمكن من المناصب الرئيسية داخل المؤسسات المدنية وفي الشركات التي تملكها الدولة بأناس قريبين من حزب العدالة والتنمية. وقام أيضا بعملية تطهير واسعة في الجهاز القضائي مستبدلا القضاة العلمانيين الذين تقاعدوا بأولئك الذين يؤيدون حزب العدالة والتنمية أو يتعاطفون معه. وحتى الجيش، الذي يعتبر مرتع العلمانية، أرغم على قبول انضمام الضباط الذين يتمتعون بمشاعر مؤيدة لحزب العدالة والتنمية.

ويتمثل العنصر الثاني في استراتيجية أردوغان في تخفيف القبضة الشديدة التي فرضتها الدولة التركية على النشاطات الدينية منذ تأسيس الجمهورية قبل ما يزيد على 80 عاما. وقد قام بذلك جزئيا تحت غطاء «قيم» الاتحاد الأوروبي التي تتضمن «حرية الدين» بدون تدخل الدولة.

وبكلمات أخرى فإن قيم أوروبا العلمانية تستخدم في مساعدة حزب العدالة والتنمية على انتزاع السيطرة على المؤسسات الدينية في تركيا، بما في ذلك ما يزيد على 100 ألف من المساجد والأوقاف، التي تدر مليارات الدولارات، من الحكومة. والحقيقة هي أن العلمانية التركية لا تعني فصل الجامع عن الدولة، وإنما السيطرة على الأول من جانب الثانية. ويأمل أردوغان أن يحرر الدين من هيمنة الحكومة، وجعله بمرور الزمن ثقلا موازيا لهياكل الدولة العلمانية.

وتتسم استراتيجية أردوغان بعنصر ثالث، هو الفوز بمنصب رئيس الجمهورية لنفسه.

وتنتهي ولاية الرئيس الحالي أحمد نجدت سيزار، العلماني من يسار الوسط، في العام المقبل، قبل أشهر من موعد اجراء الانتخابات البرلمانية. وطالما أن الرئيس ينتخب من جانب البرلمان يمكن لأردوغان أن يفوز بسهولة بالمنصب بفضل أغلبية الثلثين من حزب العدالة والتنمية في البرلمان، الذي يبقى قائما الى حين انتخاب جمعية وطنية جديدة.

وإذا ما طبقت بالكامل فإن استراتيجية أردوغان يمكن أن تجعل حزب العدالة والتنمية قادرا على ابطاء، ان لم يكن في الواقع منع، أي تغيير لاتجاهات سياساته قد تحاول اجراءه حكومة تحالف علماني جديدة. وعلى الرغم من كونه منصبا غير تنفيذي، فإن الرئاسة التركية مهمة بقدر تعلق الأمر بالحاجة الى موافقتها الرسمية على قرارات البرلمان والحكومة لتنفيذها بسهولة وسرعة. ويعتقد أردوغان ان حزب العدالة والتنمية قد لا يحصل على فرصة ثانية لتشكيل حكومة. وبالتالي فإنه يحاول أن يتوثق من أن الدولة التركية ستستمر، بعد فترة طويلة من رحيل حكومة حزب العدالة والتنمية، على ابقاء طابع اسلامي معين، على الأقل. ويعرف الزعماء العلمانيون بالطبع ما يسعى اليه أردوغان، ويحاولون وضع ما يمكن من العراقيل أمامه.

واستخدم الرئيس السابق سليمان ديميريل، الذي استخدم، لعقود عدة كزعيم لحزب ورئيس للوزراء، الموضوعات الاسلامية لتعزيز صورته، ولا سيما في المجتمعات الريفية في شرق الاناضول، وحول نفسه الى بطل للعلمانية. ويقود حملة مستفيدا من «مرحلة الشباب الثانية» بعدما بلغ الثمانين لتحذير الاتراك من ان التلاعب بالدين في مجال السياسة، يمكن ان يقودهم الى نفس «الطريق المسدود» الذي وجدت ايران نفسها فيه تحت حكم رجال الدين. وأول خطوة لمنع حدوث ذلك، طبقا لرأي ديميريل، هي منع اردوغان من الفوز في انتخابات الرئاسة.

ويردد الرئيس الحالي نجدت سيزر نفس وجهات النظر. فهو يستعد للتخلي عن التقاليد التي تبقي رئيس الدولة بعيدا عن السياسات الحزبية لكي يواجه محاولات اردوغان لخلافته.

وتجري الاستعدادات لما يمكن ان يصبح اطول وأقبح حملة انتخابية شهدتها الجمهورية. ويتحمل الجانبان اللوم. لقد تخلى اردوغان عن موقف رجل الدولة، الذي ساعده على تحقيق نجاحات اساسية بالداخل والخارج، ليعيد طرح نفسه كمقاتل شوارع سياسي، ويتجاهل اجراءات المركيز كوينبري. وأصبحت لهجته اكثر غضبا يوما بعد يوم وتلاشى اسلوبه الهادئ.

واتهم نقاده بأنهم «ملحدون» يتنكرون في رداء العلمانيين. «وذكر واحد من قاعدة حزب العمل الوطني اذا ما استمر اردوغان في هذا الطريق، ربما يبدو مثل الرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد. لا يوجد مكان في الديمقراطية لإثارة الكراهية الدينية ضد المعارضين».

الا ان معارضي اردوغان لديهم نصيبهم من الالعاب القذرة هم ايضا، فقد ذكر ديميريل على سبيل المثال، أن أي شخص يريد حياة «اسلامية» عليه ان يهاجر لإيران أو السعودية.

ومن بين الأطروحات التي يجري التركيز عليها، من اليسار التركي بصفة اساسية، هي أن اردوغان يحاول «تعريب» تركيا، ويعيد عقارب الساعة للوراء لأكثر من قرن.

غير انه هذه الاتهام غير صادق.

لقد بذل اردوغان جهدا أكثر من أي زعيم تركي آخر لتسريع عضوية بلاده في الاتحاد الاوروبي. وبالرغم من انه زار العواصم العربية اكثر من اسلافه، فإنه لم يفعل شيئا لإعادة توجيه السياسة التركية نحو الشرق الاوسط.

ومع تركيز الانتباه على ايران والعراق يبدو من الخطأ تجاهل التطورات السياسية في تركيا، اللاعب الاساسي الآخر الذي يمكن ان يؤثر على الصورة الاقليمية الكبرى للأفضل أم للأسوأ.