حصاد سريع لرحلة سريعة

TT

قضيت أياما قليلة في الولايات المتحدة بين واشنطن ونيويورك، وكان هدف الزيارة، الاستجابة لدعوة للمشاركة في ندوة نظمها مركز ويلسون، بالتعاون مع منظمة عربية أميركية تسمى «القوة الضاربة من أجل فلسطين»، تبذل في ظروف صعبة جهودا تحاول بها إعادة قدر من التوازن والإنصاف في المواقف الأميركية تجاه قضية فلسطين، استنادا إلى الحق والمنطق والشرعية، وهي مهمة تتسم بالصعوبة في مجتمع اختلطت لديه الأمور لأسباب كثيرة منها قوة الدعاية الصهيونية، وأخطاء عربية تنوعت على مر السنين والعهود ووجود عربي ضعيف سياسيا وواقعيا، صوته خافت إذا لجأ إلى المنطق، وعال إذا تحدث بأساليب لا تدل على فهم المجتمعات التي يتعامل معها.

ولكن هذا موضوع آخر لعلنا نطرقه، إذا تعرضنا إلى اللوبي اليهودي الناجح، وإلى السؤال الأبدي عن اللوبي العربي وشروط نجاحه إذا أريد له النجاح.

كانت الندوة منقسمة إلى جلستين استغرقتا نصف يوم، وهو وقت قصير لم يسمح بتناول الأمور بالعمق المطلوب والاستفاضة الضرورية. وخصصت الأولى للوضع الداخلي في فلسطين وإسرائيل بعد الانتخابات الأخيرة، وتحدث فيها عن فلسطين الأخ العزيز نبيل عمرو ـ الذي زاملته في موسكو قبل أن يصبح وزيرا للإعلام ـ ثم يتعرض لعدوان آثم في فلسطين كاد يقضي على حياته، وإن لم يستطع أن يقضي على نشاطه وحماسه وآرائه العميقة، حتى إن اختلفت معها أحيانا، والسيد زياد أبو عمرو وزير الثقافة الفلسطيني السابق وعضو المجلس التشريعي الأستاذ بجامعة بيرزيت، ومن الجانب الإسرائيلي زالمان شوفال سفير إسرائيل السابق في واشنطن المستشار السابق لشارون، والصحفي فاحوم برنيا الصحفي بجريدة يديعوت أحرونوت، وأدارت الجلسة ألين لبسون التي عملت بإدارة الأبحاث بالكونجرس ثم بإدارة التخطيط بالخارجية الأميركية، ثم في وكالة المخابرات المركزية.

ولم يكن مستغربا أن ينتقل الحديث بسرعة من نتائج فوز حزب كاديما وحماس إلى سجال حول السياسة الإسرائيلية، التي تتذرع بفوز حماس لكي تعتمد الحل المنفرد، الذي يحقق لها مزيدا من التوسع ومزيدا من اغتصاب للحقوق الفلسطينية.

وقد وضح ـ كما أبرزت بعد ذلك في حديثي ـ أن زالمان شوفال متجمد في آرائه المتعصبة التي خبرتها عندما كنا، أنا وهو، سفيرين في واشنطن تبارزنا مرات على التلفزيون، وأنه غير مستعد للتطور أو القبول بالحقائق التي تؤكد عدم إمكانية تحقيق أمن أو سلام، إلا في نطاق الإقرار بضرورة الاعتراف بالآخر وبحقوقه والتنازل عن الأوهام، أما مراسل يديعوت أحرونوت فقد أبدى واقعية واعتدالا نسبيا وهما شرطان أساسيان لا غنى عنهما إذا أريد إيجاد تسوية، أما على الجانب الفلسطيني فقد وضح قلق من احتمال أن يؤدي التطور الداخلي في البلدين إلى تعطيل أحياء الأمل في سلام عادل ومستقر، وأن كان القلق أكبر بالطبع فيما يتعلق باتجاه إسرائيل إلى الحلول المنفردة التي تبذر مزيدا من بذور التوتر واحتمالات العنف لأنها تؤكد نوايا توسعية وإصرارا على سياسات استيطانية تنكر الآخر وحقوقه.

أما الجزء الثاني من اللقاء فكان يتعلق بالمستقبل، وشارك فيه ـ معي ـ كل من شلومي بن عامي وزير خارجية إسرائيل السابق، ومروان معشر نائب رئيس وزراء ووزير خارجية الأردن السابق وياسر عبد ربه، وأدار الحوار آرون ميللر عضو فريق السلام الأميركي السابق. وقد مثل بن عامي الرأي الإسرائيلي المعتدل، الذي لا يتعامى عن الحقائق وأن كان يحاول الهرب من بعضها، وقد أقر بأن موقف شامير في رفض الحديث مع منظمة التحرير لم يكن متعلقا برفض «الطرف الآخر» بقدر ما كان رفضا لمبدأ الدولة الفلسطينية. وقد حرصت على أن أوضح عدة نقاط منها:

1 ـ إن إسرائيل تتحمل المسؤولية الأساسية للعنف على أرض فلسطين ليس فقط لأنها تلجأ إليه، بل لأنها تستفز المشاعر الفلسطينية بعدوانها المستمر، وبتحديها المشاعر الوطنية، وعدم الالتزام بما يتم الاتفاق عليه.

2 ـ إن إسرائيل تحاول أن تحرق كل محاوريها الفلسطينيين بجرهم إلى اتفاقيات تحمل تنازلات «متبادلة» ثم تتهرب من التزاماتها وتدعي أنها لا تجد محاورين فلسطينيين ومن المؤسف أنها تجد في واشنطن من التأييد والمساندة ما يشجعها على الاستمرار في ممارساتها.

3 ـ إن الحلول المنفردة لا تؤدي إلى تسوية حقيقية، وإذا كان المطلوب مثلا تحقيق السلام، فإنه يجب أن يكون على أساس اتفاقات عادلة يتم الالتزام بها، ولذلك فمن الضروري ألا تنتهي زيارة اولمرت القادمة لواشنطن بصك تأييد على بياض له، كما حدث مع شارون في رسائل التطمينات الشهيرة، بل بتحذيرات له، حتى إذا لم تكن علنية، من سياسة محاولة الانفراد بتقرير مصير الشعب الفلسطيني بالاستيلاء على مزيد من أراضيه، وتركه يحاول إقامة دولة مبتورة في أرض مليئة بالثقوب كالجبن السويسري، وبالتالي غير قابلة للحياة المستقلة.

4 ـ وحذرت الجانب الفلسطيني من الوقوع في فخ الحرب الأهلية التي لا يستفيد منها سوى من لا يريدون الخير للشعب الفلسطيني بجميع اتجاهاته، وتحدثت عن أن التاريخ يوضح أن حركات التحرير عندما تتولى الحكم تتطور نظرتها إلى الأمور مع عدم التخلي عن الثوابت، وتلجأ إلى العمل السياسي لتحقيق الأهداف الوطنية والقومية، وأنه يجب تشجيع مثل هذا الاتجاه بدلا من سياسة الاستفزاز لعرقلة مثل هذا التطور، وأدنت بشدة سياسة العقاب التي تحبذها الولايات المتحدة وتدعو إليها الآخرين، وهي سياسة ليست فقط غير أخلاقية، بل إنها تؤدي إلى نتائج هي عكس ما يدعي الأميركيون انهم يريدونه من سلام وأمن واستقرار.

وبعد الندوة أمضيت بضعة أيام بين واشنطن ونيويورك، محاولا أن أتابع تطورات الوضع السياسي، فوجدت انشغالا بموضوع إقصاء مدير المخابرات المركزية، مما اعتبره الكثيرون جزءا من آثار الصراع الداخلي بين مؤسسات جمع المعلومات التي ما زلت تعاني من آثار عمليات 11 سبتمبر وما تردد عن أن المعلومات التي كانت تسمح بمنع الكارثة كانت خيوطها متوافرة لولا عدم اليقظة الكافية أو الكفاءة المفروضة، ووجدت انشغالا بموضوع الرقابة على الاتصالات التليفونية وحدودها ومدى مشروعيتها، وتوالت استطلاعات الرأي التي توضح انهيار التأييد الشعبي للرئيس بوش مما يوحي بإمكانية أن يفقد الحزب الجمهوري أغلبيته الحالية في الانتخابات القادمة مما قد يعني في رأي البعض انتهاء سيطرة تيار اليمين المتطرف المحافظ على مجريات السياسة الأميركية.

ولمست استمرار القلق من الأوضاع في العراق، وارتباط ذلك بقلق متزايد حول احتمالات التورط في مغامرة أخرى في إيران التي مهما كان الموقف السلبي منها ومن رئيسها وحكومتها، إلا أن أصواتا بدأت ترتفع ومقالات تكتب حول أهمية التحاور مع طهران، وعلى الرغم من أن الكثيرين أبدوا رأيا سلبيا في رسالة الرئيس الإيراني، فإنهم أيضا لا يرون تضييع الفرصة لبدء حوار لأنهم يقدرون خطورة الانزلاق إلى عمليات عسكرية قد تؤدي إلى كارثة، وقد لفت نظري أن الكاتب المتخصص في العلاقات الدولية والأستاذ والصحفي آلون بن مائير وهو أميركي ـ إسرائيلي يكتب تحليلات لعدد من الصحف والمعاهد، كتب مؤخرا مقالا يطالب فيه ببدء الحوار مع إيران، وقد سبق لي أن كتبت أني أرى في التصرفات والتصريحات الأميركية والإيرانية، ما يبدو لي تجميع أوراق «رابحة» للدخول في عملية مفاوضات أو مساومات واسعة النطاق.

ويقتضي ذلك الاحتمال من الدول العربية، أن تكون يقظة وقريبة من هذه التطورات، بل لعلها تستبقها بشكل أو بآخر، للحفاظ على مصالحها وهذا موضوع آخر قد يكون من المفيد أن نعود إليه في وقت لاحق.