هل غادر الشعراء؟

TT

في أزمان سابقة كان الشاعر هو «البطل». هو حارس الحريات والرمح الضارب في ظلام العقول والقلوب. هو مؤرخ الشعوب وأمجادها وتحررها، هو هوميروس وهو فيرجيل وهو طاغور وهو غوته. ولم يكن غوته يفرح بلقب «شاعر ألمانيا» بل بمرتبته «كجندي في تحرير الإنسانية».

فقد كان للشاعر قضية أولى قبل نفسه هي قضية الإنسان أو الوطن أو الاستبداد. ولم يكن من الضروري أن يكون النظم حماسياً عابراً وخالياً إلا من الإيقاع. بل كانت في الشعر عبقريات وجماليات تحولت إلى أنشودة في ضمائر الشعوب. ويقع الكثير من أعمال الجواهري في هذا الباب وشعر شوقي وبعض حافظ إبراهيم وقصيد محمود درويش. وامتلأ شعر نزار بالإنسانيات، بادئاً في الأربعينات بحرية المرأة والعسف الاجتماعي وظلم الجهل.

لقد انتهى هذا الدور. ليس في العالم العربي، بل في كل مكان. ليس في أميركا اللاتينية اليوم بابلو نيرودا. ولا طاغور في الهند. ولا هوغو في فرنسا. ولم يعد لكل قضية شاعر يحرسها ويقودها ويقرع لها الطبول. وكان آخر من أثار قضية السجون السياسية في العراق صحافي من أميركا. وغاب الشعر النضالي في اليونان. فلم تعد اليونان أثينا أو اسبارطة بل هي الموسم السياحي في كورفو. ولم تعد النساء الخاطئات يطعَنَّ حتى الموت في ساحات كريت، كما في زوربا. فالمرأة الزانية تذبح الآن في عمان. ويتولى ذلك شقيقها لا القاضي. فهي لا تحاكم. هي لا تمنح شرف المحاكمة، لأن لا شرف لها. فقط القاتل يعطى هذا الامتياز، مضافاً إليه الحكم بالسجن ستة اشهر.

لا يبلغنا بذلك الشعراء. فقد غادروا حقاً هذه المرة وليس مجازاً كما تساءل عنهم عنترة. وقد اتخذت «الجمعيات» دور الشاعر: جمعية العفو. وجمعية مراقبة السجون، وجمعية الدفاع عن حقوق الإنسان في عالم الحق فيه للقاتل لا للقتيل. وأول ما يؤمر به القتيل هو الصمت. ويمنع من الشهادة في مقتله. ويعتبر أنينه تشكيكاً في نزاهة الأمة.

هل غادر الشعراء من متردّم؟ ربما. لقد مات عشرات الآلاف الشتاء الماضي في عراء باكستان البارد من دون قصيدة رثاء. «الجمعيات» تولت كل شيء. وعصر محمد إقبال أصبح مجرد ذكرى خليقة بالاستعادة في إطار مناسبتها فقط. فلم يعد من مهام الشعراء «تحرير الإنسان» كما كان يحاول «الجندي» غوته. ولا عادت أناشيد نيرودا تهز جبال الانديز ومصبات الأنهر ويترنم بها الفرنسيون على ضفاف السين.

هناك اليوم ملاحم لا تعثر على شاعرها. وحروب لا تعثر على كاتب أو شاعر أو شاهد يقرض الشعر العامي الحزين. فقط تحال المسألة كلها إلى المجتمعات: تدون بأرقام كبرى وأحرف صغيرة. مصير عالم يخلو شيئاً فشيئاً حتى من الكتابة عن الإنسان.