كنت أقاوم الملل عندنا جميعاً!

TT

عندما كنت عضواً في جماعة الإخوان المسلمين وطالباً في الجامعة، كانوا يكلفونني بإلقاء خطبة الجمعة وإمامة المصلين في مسجد يتحدد كل أسبوع، وقد اهتديت إلى حل مريح وهو أن أعد خطبة واحدة لا أغيرها: بعض الآيات القرآنية وبعض الأحاديث النبوية عن الصدق والأمانة وكفى، وكان أمراً سهلاً جداً أن أتلقى أمراً بالذهاب إلى المساجد القريبة من القاهرة، وفي يوم فوجئت بأحد الزملاء في جمعية الإخوان المسلمين بمدينة إمبابة يقول لي إنه يتابعني أينما ذهبت، قالها سعيداً، وأتعسني ذلك، فهو إذن يستمع إلى خطبة واحدة، وشعرت بالكسوف، فهذا الأخ لا بد أنه قد زهق أو عرف الملل، وأن حماسي في إلقاء الخطبة مفتعل، ولا بد أنه اندهش كيف أردد كلاماً واحداً بحماس متجدد، ولم أستطع أن أقول له: يا أخي بلاش.. ولماذا تضايق نفسك بالسماع إلى خطبة واحدة لا تتغير.

ولكنه قال لي ما أراحني، وهو أنه يعمل طول الليل في دكان والده، وأنه لا يكاد يدخل المسجد ويشعر بالناس حوله حتى يسند ظهره إلى الحائط وينام طوال الخطبة، فإذا قام الناس للصلاة ذهب وتوضأ، أي أنه لم يستمع لي ولا مرة واحدة!

وعندما كنت مدرساً للفلسفة في الجامعة كنت أغير الموضوعات التي أدرسها للطلبة كل سنة، فقد أعطاني أستاذي عبد الرحمن بدوي هذه الحرية هرباً من الملل، وحتى لا أكون معدياً فأنقل للطلبة الملل والزهق والقرف من تكرار الموضوع سنة وراء سنة!

وأذكر أنه في إحدى السنوات ضقت بما أقوله، فقد كان كلاماً مكرراً في تاريخ الحضارة الإنسانية، قلت وقرفت، ولم أعد أجد جديداً أقوله، فما كان مني إلا أن حاضرت في موضوع فلسفي غير مقرر على الطلبة، وحتى لا أزهق الطلبة قلت لهم: بمنتهى الأمانة، هذا الموضوع ليس مقرراً عليكم، ولن أسأل أحداً فيه، ولا يضايقني إذا غاب الطلبة عن سماع المحاضرات. ومن الغريب أن جاء طلبة من أقسام أخرى لسماع هذه المحاضرات التي ليست مقررة، فكان يجيء طلبة من أقسام الاجتماع واللغة العربية والإنجليزية والفرنسية.

ولما أحسست أنني زهقت أنهيت العام الدراسي قبل موعده، فلم يكن الطلبة هم الذين زهقوا وإنما أنا: من الموضوع ومن الطلبة ومن نفسي!