الغلو في المؤامرة (خدمة لها).. ونفيها ـ بإطلاق ـ (جزء منها)

TT

كان هلال مقالي الاسبوعي الماضي: مقولة تشرشل التي أعلن فيها ـ في مؤتمر يالطا عام 1945 ـ انه (صهيوني) وانه يجب اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين. وقلنا: إن هذه المقولة وهذا الموقف قرينتان أو دليلان على صحة وجود (المؤامرة) في السياسات والاستراتيجيات الدولية.. ومؤتمر يالطا هو الذي اعقب الحرب العالمية الثانية، فماذا عن مؤتمر فرساي الذي أعقب الحرب العالمية الأولى؟ ـ في هذا المؤتمر ايضا حبكت خيوط المؤامرة على فلسطين، وحول قضايا أخرى عديدة.. من هو الرجل (الأقوى والأشد سطوة) في الوفد الأميركي الى مؤتمر فرساي؟.. الجواب البديه هو: ان الرجل هو الرئيس الأميركي ويلسن ـ عهد ذاك ـ. وهذا صحيح من الناحية الرسمية أو الشكلية، بيد ان الرجل الاقوى في الوفد الأميركي ـ من الناحية الفعلية ـ هو: اليهودي الصهيوني (برنارد باروخ).. ومن الوقائع الموثقة: أن (اليهود الصهيونيين) برزوا بصورة واضحة في الوفد الأميركي، ولهذا السبب اطلق الفرنسيون على مؤتمر فرساي اسم (مؤتمر الكاشير).. وكان وجودهم في الجلسات السرية!! «كثيفا». وهذا ما دعا الراصد المتابع المتقد الذكاء: الدكتور براون، لكي يقول ـ في كتابه: القصة الخفية لمؤتمر الصلح ـ: «قد يبدو من المدهش للقراء، لكن هذه الدهشة لا تقلل مطلقا من الحقيقة القائمة. هذه الحقيقة هي: ان عددا كبيرا من المندوبين اعتقدوا ان التأثيرات الحقيقية هي يهودية في طابعها. فقد كان سير المصالح التي تم تشكيلها وتطبيقها في هذا الاتجاه من وحي اليهود الذين اجتمعوا في باريس لغاية واحدة وهي تحقيق برنامجه المدروس دراسة كاملة والذي تمكنوا من تنفيذه بصورة صحيحة».. أما سفير فرساي في انجلترا: الكونت دي سانت أولاير، مؤلف كتاب (جنيف نحو السلام) فيقول: «ان النصوص التي تضمنتها معاهدة فرساي فيما يتعلق بالقضايا الخمس الرئيسية هي من وضع يعقوب شيف وابناء جلدته».. ومما لا ريب فيه ان تمكين اليهود من فلسطين هو أحد أبرز هذه القضايا الخمس.

ولعل المقام يقتضي مزيدا من (الوقائع التي تثبت حقيقة أو صحة وجود المؤامرات).. من هذه الوقائع:

1 ـ بمناسبة مرور أربعين عاما على القصف الياباني لميناء (بيرل هاربور) الأميركي: أصدر الكاتبان الأميركيان: جيمس راسبورجر، واريك ردكيف، كتابا ـ في أواخر الثمانينات ـ بعنوان (خيانة بيرل هاربور) كشفا فيه لغزا أو سرا يفلق الرأس من فرط الذهول، إذ قالا: «ان القيادات العسكرية الأميركية العليا في القوات المسلحة، وكذلك رجال الاستخبارات، كانوا على علم مسبق وقبل وقت طويل بأن اليابان ستشن هجوما مباغتا بالطائرات المقاتلة يستهدف ميناء بيرل هاربور ـ بالتحديد والضبط ـ الى جانب منشآت عسكرية أخرى، وان المخابرات الأميركية كان قد سبق أن التقطت شيفرة سرية يابانية وقامت بفك رموزها وعرفت من محتواها نوع الهجوم وتوقيته. وقد حصل هذا العلم قبل شهر من القصف» ويورد المؤلفان حقيقتين أخريين مذهلتين أيضا: «أولاهما: اعتقاد عسكري قرر ان الجانب العسكري الأمني هو الذي يجب أن يسود، لا الجانب الدبلوماسي والسياسي. وثانيتهما: ان هذه المعلومات حجبت عن الرئيس الأميركي يومئذ: فرانكلين روزفلت، بناء على هذا الاعتقاد العسكري الأمني».. واتضح من بعد ان العسكريين الكبار المتمردين على صلاحيات الرئيس ومسؤولياته، كان لهم هدف من وراء هذه الخيانة ـ كما وصفها مؤلفا الكتاب ـ وهو: تهيئة المناخ ـ الوطني والدولي ـ لقصف اليابان بالقنابل الذرية.. وقد كان.

2 ـ مقتل الرئيس الأميركي الاسبق جون كنيدي كان نتيجة مؤامرة: اجتهد الضالعون فيها: سنين عددا من أجل قطع خيوطها وطمس معالمها. فالمتهم الاول في عملية الاغتيال الكبرى هذه هو: لي هارفي أزوالد: اغتيل وهو في طريقه من زنزانته في مبنى شرطة دالاس الى مكتب التحقيق الفدرالي!!.. قتله جاك روبي الذي قيل انه مات بسرطان الرئة.. مات بعد ان قال في مقابلة تلفزيونية: «ان الناس الذين يكسبون من وضعي في المكان الذي انا فيه، ولديهم الدوافع لذلك، لن يسمحوا للوقائع الصحيحة ان تظهر للعالم».. مات بعد ان قررت محكمة تكساس الاستجابة لتوسلاته، كما قررت موعدا جديدا لمحاكمة جديدة. إلا انه أذيع بعد قرار المحكمة بثلاثة أيام أن جاك روبي مات!!.. ولقد اتهم في قضية اغتيال جون كنيدي أكثر من خمسين شخصا: قتل منهم ـ في حوادث متنوعة ـ أكثر من أربعين شخصا!!.. ومما ينبغي ادراجه في هذا السياق: أن مفردة المؤامرة تكررت كثيراً جداً على ألسنة الأميركيين وهم يتحدثون عن مقتل رئيسهم.. قال الإعلامي الأميركي دوبرت سام انسون: «لم يكن الفاعلون مجموعة صغيرة. لقد كانت مؤامرة هائلة الأبعاد رصينة جيدة التنظيم».. وقال السيناتور الأميركي السابق: ريتشارد شوايكر: «اعتقد ان لجنة وارين شكلت لالهاء الأميركيين عن حقيقة المؤامرة وأسباب الالهاء غير معروفة حتى الآن. وان احدى أكبر عمليات التغطية المضللة في تاريخ بلادنا حدثت تجاه مقتل كندي».. وقالت لجنة منبثقة من مجلس الشيوخ، بعد تحقيق استمر عامين: «ان الرئيس كندي اغتيل على الأرجح بفعل مؤامرة».. وقد وافق على هذه النتيجة 75% من خبراء قضايا الاغتيال أو 80% من الرأي العام الأميركي.. وقال دجي روبرت بلايكي: كبير مستشاري لجنة المجلس لشؤون الاغتيالات: «إنني الآن مقتنع بأن المجموعات الاجرامية هي التي دبرت مؤامرة اغتيال الرئيس كنيدي.. هذه هي الحقيقة التاريخية».. وهؤلاء القائلون ليسوا عربا ولا مسلمين، بل هم أميركان، ومن هنا، فإن اتهام العرب والمسلمين باختراع (ذهنية) أو عقلية المؤامرة: موقف يدل إما على الجهل الشديد.. وإما على (إدمان الافتراء) على العرب والمسلمين: افتراء قد يدخل في (نظرية المؤامرة)!

ان هذه الحقائق والوقائع (ولها نظائر تؤلف في مجموعها موسوعة كبرى بل موسوعات).. هذه الحقائق والوقائع: إما أن ان تُنفى، وهذا غير ممكن إلا في حالة إغماض العينين ـ عمدا ـ عن رؤية الحقائق والوقائع.. وإما أن تفسر بأنها تدل على (الشفافية) التامة في ممارسة هذا الكم الهائل من الظلم والشر والاثم والعدوان وهضم الحقوق واحتلال الأوطان. ولا يقول بالشفافية التاريخية والسياسية في هذا المجال: إلا مجنون أو مستهزئ يتسلى بالاستخفاف بعقول الناس، واحتكار ذكائهم.. وإما أن تفسر بأن ذلك كله جرى وفق (المصادفة) وحدها، لكن القائلين بالمصادفة يكونون بذلك أكثر خرافة من القائلين بالمؤامرة باطلاق، وفي كل شيء.. وإما أن تكون تلك الحقائق والوقائع دليلا على (ثبوت المؤامرة). وهذا هو التفسير العقلاني الراجح.

لماذا يصر أقوام على (نفي المؤامرة) باطلاق؟.. لنفترض حسن النية فنقول: إنهم لا يفعلون ذلك: تغطية للمؤامرة نفسها، ولا مشاركة فيها، ولا دفعا للأعين بعيداً عنها، ولا إطلاقا لدخان كثيف يستر زحوف المتآمرين.. وانما ينفون المؤامرة من أجل (تصحيح طريقة التفكير في تفسير الاحداث والوقائع والمواقف). بيد ان هذا النفي المطلق: ليس مما يصحح طرائق التفكير. ذلك ان النفي القاطع الجازم هو نفسه (تفكير خاطئ) أيضاً.. وانما يُصحح التفكير في هذه القضية بـ (نفي المبالغة والغلو) في القول بالمؤامرة... وبنفي الغلو يتجرد التفكير من مرض التهويل، ويكتسب الصحة العقلانية والموضوعية في النظر إلى الأمور. وحين يكتسب هذه الصحة يتجه الى الاثبات: اثبات القدر المعقول والموثق من المؤامرة، أي اثبات ان التاريخ البشري ـ القديم والحديث والمعاصر ـ ولا سيما الجانب السياسي منه ـ مثقل بمخططات وتدابير شريرة قصمت ظهور أمم، وقوضت دولا: وفجرت مجتمعات، وحرمت البشرية من طعم الأمن والسلام الحقيقي. وانما نسجت تلك المخططات في الظلام.. ومن الأمانة العلمية كتابة سطور حول (مفهوم المؤامرة). فبالتحقيق العلمي في مفردة (مؤامرة) يمكن أن يقال: إنها كلمة مشتقة من فعل (أمر). وهي تعني في هذا الاشتقاق (التآمر) بكذا وكذا، أي ان ناسا من الناس قد اجتمعوا فتآمروا بهذا الشيء أو ذاك. وقد يكون التآمر بالخير «وائتمروا بينكم بمعروف».. وقد يكون بالشر والأذى والعدوان: «وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى ان الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين».. فالمؤامرة الشريرة هي (التدبير الخفي في الظلام للتواطؤ على الظلم والعدوان).. ولا نحسب أن عاقلا ينفي ان هناك تدبيرات سياسية خفية من هنا النوع: أمس واليوم (ألم تكن قارعة احداث 11 سبتمبر مؤامرة دبرت في الظلام سواء دبرها الارهابيون او غيرهم). ولذا نقول: بعقل وموضوعية ووضوح: ان نفي المؤامرة باطلاق إنما هو (جزء منها).

أما الطرف الثاني في هذه المسألة فهم أولئك الذين ينزعون منزع (الغلو) في القول بالمؤامرة. فهذا الفريق يفكر فيها تفكيرا أسطوريا خرافيا، إذ هو يفسر بها كل حدث وكل موقف، وكل واقعة، حتى ان احدهم إذا فشل في محبة زوجته اوشك ان يتهم المخابرات الأميركية أو الحركة الصهيونية العالمية بأنهما هما السبب!!.. وعند التحقيق يتضح ان هذا الفريق المهووس بالاثبات المطلق لا يقل خطراً عن الفريق المهووس بالنفي المطلق: وفي كل شر.. ومما لا ريب فيه ان الغلو في المؤامرة ملتاث بنوع من الشرك من الناحية العقدية. فهو غلو يمنح المتآمرين من البشر صفة من صفات الله وحده: صفة انه هو الفعال لما يريد.. ومن الناحية السياسية والواقعية، فإن الغلو في المؤامرة يخدم العدو عبر صب اليأس من مواجهته.. في نفوس الأمة. ولذا نقول: بعقل وموضوعية ووضوح: ان الغلو في المؤامرة: خدمة لها.