«انتصار» أحمدي نجاد في تحديه للعالم كارثة على مليار مسلم

TT

عندما ارسل الرئيس الإيراني محمود احمدي نجاد بخطاب الى الرئيس الأمريكي جورج بوش، قررنا كمراقبين، منحه امتياز الشك، باعتباره يتجنب سوء التفاهم الناجم عن المفاوضات عبر طرف ثالث في غياب العلاقات المباشرة.

جاء خطابه ـ في 18 صفحة ـ للاستهلاك المحلي يعكس رؤيته للعالم، وهي ليست بالضرورة واقعية تأخذ في الاعتبار رؤية الامم الأخرى وحقوقها، خاصة الجيران.

ورغم غرابة رؤية احمدي نجاد للعالم، فمن الحكمة دراسة الخطاب بتمعن شديد، وعدم رفض البيت الأبيض فكرة الحوار، شريطة ان تكون ضمن مفوضية للمجتمع الدولي.

فتفاوض واشنطن ثنائيا مع النظام الإيراني سيجعل الأزمة تبدو وكأنها صراع ثنائي بين الولايات المتحدة وطهران، بينما هي بين احمدي نجاد، الذي يمثل «الناصرية» الجديدة، وبين المجتمع الدولي.

فمن البديهي ان الغالبية العظمى من سكان العالم، بمسلميه، ترغب في الرخاء والسلام والحرية بمفهومها الليبرالي الكوني الأشمل الذي يحفظ كرامة الفرد وحقوقه المدنية والسياسية وحريته في العقيدة وممارسة شعائرها، وحقه في اختيار نمط الحياة التي يرغبها بدون التدخل القسري من الدولة او المؤسسة الدينية، وفي اختيار او رفض ثقافة او ثقافات معينة.

هل يقلد احمدي نجاد، خطاب آية الله الخميني منذ عقدين للرئيس السوفيتي ميخائيل غورباتشيف يدعوه لاعتناق الاسلام؟

وهل يعتقد انه بلغ في الفقه مرتبة «خليفة» للخميني في المركز الذي رآه الأخير لنفسه كإمام يريد ان يوحد ويقود كل مسلمي العالم تحت رايته ـ مع اعتراضي اصلا على خطوة الخميني وقتها شكلا ومضمونا ؟

البعض يقبل هذا التفسير، خاصة في ضوء ما بدر عن احمدي نجاد بما يثير اهتمام علماء السيكولوجيا بدراسة حالته؛ سواء بادعائه وجود هالة من النور حوله اذهلت المستمعين الى خطابه في الامم المتحدة في اكتوبر الماضي، وجعلت عيونهم مثبتة عليه بدون ان تحرك جفنا. او انتظاره للمهدي الذي يتوقع وصوله.

وهناك تفسيرات أكثر ملاءمة لتاريخ المنطقة والتيارات المتصارعة فيها.

فأحمدي نجاد، يعي ما واجه به الرئيس بوش.

فمن ناحية، ليس الرئيس الايراني بأحد الخلفاء الراشدين، ويدرك انه لا يستطيع التحدث كممثل، ناهيك من زعيم ، للعالم الاسلامي.

ومن ناحية اخرى لا يمكن لعاقل ان يقارن الرئيس بوش بقيصر روماني او ملك بيزنطي، فهو رئيس منتخب لدولة علمانية ولا يتزعم كنيسة او دولة دينية يستطيع ان يغير ديانتها الرسمية بقرار (كما فعل اوغسطس مثلا بتحويل روما لاعتناق المسيحية).

ما يقدمه احمدي نجاد، هو نوع التحدي الذي قدمه الرئيس المصري الراحل الكولونيل جمال عبد الناصر، للجيران الرافضين مشروعه القومجي، وفي تحديه للغرب، وتحويله كتلة عدم الانحياز ضد الليبرالية في الحرب الباردة. ويقلد استخدامه ناصر للمواجهات التي بدأها مع اسرائيل بغرض حشد تأييد العرب وراء حدود بلاده عندما اكتشف فتور تأييد المصريين، الرافضين تاريخيا لثقافة الحرب والعدوان، لمشاريعه بعد الوحدة الفاشلة مع سوريا وتكلفتيها الاقتصادية والسياسية الباهظتين للأمة المصرية.

يسعى احمدي نجاد لحشد تأييد المسلمين وراء حدود ايران ـ رحلته الى جاكارتا مثلا ـ بدلا من ان يترك عقول وقلوب الشباب فرصة لدعاية ايمن الظواهري واسامة بن لادن. واذا كان عدوان القاعدة على امريكا اكسبها شعبية غوغائية في الشارع، فان تحدي احمدي نجاد لامريكا، وتهديده لاسرائيل، هما مغناطيس قوي لجذب شباب المسلمين الذي ضللته بروباجندا الاسلامويين فيصب غضبه على الغرب، بدلا من الارتفاع بمستواه عن طريق الديموقراطية.

هدد اسرائيل «بمحوها من على الخريطة»، وعقد مؤتمر «عالم بلا صهيونية (اي اسرائيل) وبلا امريكا»، فحقق حتى الآن، شعبية في شوارع البلدان العربية، وبين الفلسطينيين، وتحالفا ـ ولو مرحليا ـ بين القومجيين العرب، وخصمهم القديم «الإسلامويين»، لأن «العدو» المستهدف هو اسرائيل.

وباستثناء الليبراليين من الكتاب العرب، وتأثيرهم محدود بين الصفوة الذين يشيرون الى ان ايران تريد السلاح النووي لتقوية نفوذها وابتزاز الآخرين، فإن التيار العام للاعلام العربي والفضائيات هو الاعجاب بأحمدي نجاد.

فموقع على الانترنت تدعمه ايران لدعوة الانتحاريين للتسجيل، جذب حتى الآن 53.900، مبينا تأثير احمدي نجاد على عقول الشباب البسطاء.

الكولونيل عبد الناصر لم يقدم مشروعا قوميا نافعا للمصريين بل لجأ لبديل هو الشعارات الغوغائية حول الإرادة المستقلة والكرامة القومية. وافتعل مواجهات بدأها بالعدوان على اصحاب اسهم شركة قناة السويس، والتسرع برفض تسويات مرضية لجميع الأطراف مقامرا بالمواجهة. ربح الرهان بتدخل امريكي غير مدروس العواقب، انقذ جلده ونظامه، ليس لبراعته الديبلوماسية، بل لخطأ الديبلوماسية البريطانية التي استبدلت اقناع امريكا بحقوقها بالتحالف مع الخصم التاريخي، فرنسا، وكارثة عدم اللجوء لمجلس الامن لمواجهة انتهاكات ناصر للقانون الدولي. وخسر مقامرة عام 1967، عندما انتهك الاتفاقيات واغلق خليج العقبة امام الملاحة الاسرائيلية، وحشد جماهير البلدان العربية بخطابات التحدي الغوغائية ، ففقد الآلاف ارواحهم، وفقد حلفاؤه اراضيهم، ولم تنقذه امريكا بعد تحديها ان «تشرب من البحر الابيض اذ لم يعجبها البحر الأحمر».

احمدي نجاد يعرف ان 10% فقط من الشعب الايراني يؤيده، بينما حوالي 20 ـ 30% متعاطفون معه فقط بسبب «التهديد» الخارجي؛ وبعكس الكولونيل ناصر، يقدم للإيرانيين مشروعا قوميا يؤيده 80%، وهو الطاقة النووية وخيار انتاج السلاح النووي، اذا لزم الأمر.

ولذا فخطابه الى الرئيس بوش يمكن تلخيصه في إلقاء قفاز التحدي. فرؤية الرئيس الايراني للعالم ترفض الليبرالية الديموقراطية «ككفر»، وتطرح البديل، وهو نظام الملالي والشمولية على نمط خلافة اسلامية من القرون الوسطى.

واذا كان الخطاب الغوغائي الايراني بلغ هذا الحد من الغرور والعنجهية ـ اضافة الى احتلاها جزرا اماراتية، ونفوذها في جنوب العراق، وتقديمها السلاح والدعم لمنظمات ارهابية في العراق وغير العراق، ودعم منظمة الجهاد الاسلامي الفلسطينية، التي رفضت خوض الانتخابات او الالتزام بالهدنة، واعتراف زكريا زبيدي من كتائب «شهداء الاقصى» بتلقيهم دعما ايرانيا؛ وتصديرها الثورة ـ بدون امتلاكها للسلاح النووي، تُرى ما سيكون عليه نفوذها وتهديداتها لجيرانها عندما تمتلك الخيار النووي؟

فإلى جانب اشتعال سباق التسلح النووي في المنطقة، وخطورة الحرب غير المقصودة، او تسرب الاشعاعات النووية، هناك خطر أكبر على مسلمي اوروبا والعالم اذا سمح لاحمدي نجاد بالخروج بفرصة يقدمها الإعلام العربي والاسلامي المعادي للغرب على انها «انتصار» لمشروعه الشمولي على مشروع الليبرالية والديموقراطية التعددية (بصرف النظر عمن يرفع رايتها مرحليا).

«انتصار» مشروع احمدي نجاد سيدفع 28 مليون مسلم في اوروبا، الى الغيتو الثقافي والتشدد بدلا من الاندماج في اوطانهم الأوروبية، ويتكرر ارهاب 7/7 في لندن، وقطارات مدريد.

وستكون ضربة قاصمة للتنويريين المسلمين الذين يعملون لتحرير العقول من «كهنوت» الملالي، كي يحقق مليار مسلم احلامهم بالديموقراطية والحرية والمساواة بشعوب الأرض التي تتمتع بالحرية والتمثيل النيابي.