سلام دارفور ومصير الوطن

TT

اتبع انقلاب يونيو 89 سياسات إسلاموية أحادية، إقصائية استقطبت ضده القوى السياسية والمدنية والنقابية في البلاد. وعمقت الحرب الأهلية بأبعاد مارشالية جهادوية. وألبت ضده دول الجوار، ولوبيات خارجية دينية، وإنسانية ودبلوماسية، لا سيما في الولايات المتحدة الأمريكية.

فرارا من هذا التطويق، تراجع النظام من «مشروعه» الحضاري عبر خطوات: أولها إبرام اتفاقيات السلام من الداخل مع الفصائل المنشقة من الحركة الشعبية، وثانيها: إبرام نداء الوطن مع حزب الأمة القومي. وفي 1997 وقع النظام وثيقة إعلان المبادئ التي اقترحها وسطاء دول الايقاد فانتظمت المفاوضات بين الحكومة والحركة الشعبية بوساطة كينية تحت مظلة الايقاد. ولكنها راوحت مكانها إلى أن خصبها شركاء الايقاد بالنصح والتمويل، ثم فعّلها الرافع الأمريكي بعد عام 2000 بالوعد والوعيد والتحكيم فأثمر ذلك كله اتفاقية نيفاشا في يناير 2005.

اعتبر النظام المطوق أنه بهذه الاتفاقية قد حقق لنفسه قبولا داخليا وخارجيا واشترى عمرا جديدا. بهجة النظام لم تتم للآتي:

أولا: بنيت اتفاقية نيفاشا على فكرة إنهاء الحرب بين طرفي الاقتتال وعلى أساس أن المشكلة بين الشمال والجنوب وأن الطرفين يمثلانهما.

وبعد ضغط وتحكيم وإملاء، وقع الطرفان اتفاقا ثنائيا غيب الآخرين ووضعهم حتما في خانة التحفظ المضاد.

ثانيا: سياسات النظام في دارفور أدت لبروز أربعة عوامل جديدة فيه هي: الإثنية المسيسة، والمقاومة المسلحة، والمأساة الإنسانية، والتدويل.

انفجار أزمة دارفور في عام 2002 بفعل تلك المستجدات، خطف الأضواء السياسية داخل السودان وخارجه. وعندما بدأ التفاوض لإيجاد حل سياسي للأزمة اتضح أن السقوف التي وضعتها نيفاشا لا تسمح بأية تسوية حقيقية مع أي طرف آخر!

بارونات الحرب لا يتصورون وجودا لشرعية خارج فوهة البندقية ويتصورون أن اتفاقاتهم الصالحة لوقف الحرب هي وحدها كذلك صالحة لبناء سلامهم الذي يؤسسونه على مساومات وترضيات ومقايضات في اقتسام السلطة والثروة. والحقيقة أن بناء السلام يوجب مشاركة كافة القوى السياسية والمدنية ويوجب نقل مفهوم المشاركة في السلطة إلى الشرعية، وفي الثروة من المحاصصة الجهوية إلى الاحتياجات التنموية. ولكن الذي حدث هو استبدال هذه المقاييس الموضوعية بالمساومات والترضيات والمحاصصات الثنائية.

كان يمكن للرافع الخارجي، لاسيما الأمريكي الأكثر وعيا وحداثة ألا يحصر جهده في الحث على توقيع اتفاقيات وقف الاقتتال، والمحاصصة في ظل السلام بل يهتم بجدوى الاتفاقيات لا لمجرد وقف الحرب ولكنه أيضا لبناء السلام. العيب المشترك للمداخلات الأمريكية في قضايا المنطقة: فلسطين، والعراق، وافغانستان، وإيران.. إلخ يدل على أنهم يركزون على القوة الخشنة ويهمشون تماما دور القوة الناعمة أي الفكرية، والثقافية، والمدنية! المفاوضان والرافع فاتهما قول أبي الطيب:

الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المكان الثاني

ومن دون دراسة حقيقية لعثرات نيفاشا انخرط الفرقاء في نيفاشا الصغرى أي اتفاقية أبوجا.

وقع المؤتمر الوطني على أبوجا لوقف العمل المسلح، ولإرضاء الأسرة الدولية، وللمحافظة على مكانته الحزبية المسنودة باتفاقية نيفاشا.

الأسرة الدولية لم تشغل نفسها بجدوى الاتفاقية الجديدة ولكنها حرصت عليها للآتي: أولا: الوضع الأمني والإنساني في دارفور يوجب اعتماد ولاية دولية والتوقيع على اتفاق يزيل تحفظات الدول التي تراعي خاطر الحكومة السودانية في مجلس الأمن.

ثانيا: وقف الاقتتال وحماية الأمم المتحدة تحولان دون ما صرح به وزير الدفاع السوداني ورددته قيادة القاعدة من ضم مسرح دارفور لعملياتها.

ثالثا: احتواء تداعيات أزمة دارفور في غرب ووسط أفريقيا.

رابعا: لكيلا تشكل أزمة دارفور عقبة في سبيل اتفاقية نيفاشا.

ولكن هاهو النظام السوداني بعد التوقيع على نيفاشا بعام وتعديل بعض قسماته، والتوقيع على أبوجا يقف على حافة الهاوية لأنه يواجه:

> تحديات مسلحة جنوبا، وغربا، وشرقا، وفي العاصمة ومناطق أخرى.

> جبهة سياسية عريضة قوامها كل القوى التي صنعت انتفاضة أكتوبر 1964 ورجب أبريل 1985 وزيادة.

> قرارات دولية تحت الفصل السابع آخرها القرار رقم 1679

> ملاحقات دولية جنائية بموجب القرارات 1591 ـ 1593.

> صنف النظام بموجب تقرير هيئة الشفافية العالمية لعام 2005 على أنه الأكثر فسادا في العالم العربي.

> مجلة الشؤون الخارجية الأمريكية ومؤسسة الأبحاث في شؤون الأمن أصدرتا المؤشر السنوي الثاني للدول العاجزة لعام 2005 وانطلاقا من مؤشرات مثل: الصراعات الداخلية، وانتشار الجرائم، والفساد، والهجرة، وشرعية الحكومة، صنف السودان بأنه الأكثر عجزا مقابل الدول الأقل عجزا في العالم وهي النرويج، والسويد وفنلندا.

في وجه هذا الاحتضار، فإن ذخيرة المؤتمر الوطني والحكومة التي يسيطر عليها تستشفى بالأسبرين:

> تنظيم ملتقى ثنائي مع الحركة الشعبية لبحث عثرات اتفاقية نيفاشا. إن بين الطرفين بعد المشرقين وحتى إذا اتفقا الاتفاقيات التي تقوم كالعادة على التسكين فإن مشاكل اتفاقية السلام أكبر منهما ولا تحل إلا في إطار قومي.

> حث الاتحاد الأفريقي أن يضغط على الإخوة عبد الواحد، وخليل، ليوقعا على الاتفاقية بالوعد والوعيد.

> كيل الاتهامات لقوى سياسية غيبوها وأسقطوها من حسابهم وظاهروا على إسقاطها بأنها تعرقل اتفاقية السلام.

من ميزات النهج السياسي الغربي أن القرار السياسي يثري نفسه بدراسات ورؤى فكرية مستمدة من الفلك الثاني ((Second Track

عدد من المنابر الغربية بدأت تدرك عيوب الاتفاقيات المبرمة وتدعو القوى السياسية والمدنية السودانية لبحث المسألة السودانية قوميا، مثلا، الحوار الاستشاري بشأن المسألة السودانية في كندا (6 ـ 7 مارس 2006)، ومؤتمر المائدة المستديرة حول المرحلة الانتقالية في تنزانيا (29 مارس 2006)، ومؤتمر السودان بألمانيا (12 ـ 14 مايو 2006م). توصيات هذه المؤتمرات تقول بضرورة المشاركة الواسعة في حل مشكلات السودان على أساس قومي. المؤتمر الوطني مخندق في عنبره يعالج الاحتضار بالاسبرين، ويقدم للأنام مشهدا مأساويا كوميديا يبكي أهل السودان ويضحكهم!

هذا المشهد يزيد من أسباب التشظي التي تزيد من أسباب التدويل إلى أن يفلت الأمر من أهل السودان.

ويبقى أمام أهل السودان الذين أدركوا الهاوية التي يسوقهم إليها نظام أسكره الجاه والمال، الضغط بكل الوسائل المدنية الممكنة وهذا يشمل كل الوسائل ما عدا العنف لتحقيق إحدى الحسنيين: أن يدرك النظام في الساعة الحادية عشرة خطورة الموقف، ويضع الأمر في أيدي أهل السودان عبر ملتقى جامع ويقبل قرارات ذلك المؤتمر على حساب مصالحه الحزبية الضيقة التي حشرتنا في هذا الجحر المظلم.

أو أن يدرك بعض عقلاء النظام خطورة الموقف فينفضون أيديهم عن سدنة الكوارث وينحازون لتطلعات الشعب المشروعة.