سياسة التجويع الأميركية للفلسطينيين وكيفية الرد عليها

TT

وضعت الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش، مخططات طموحة لتحسين صورتها في العالم العربي. رصدت ميزانيات، وعينت مسؤولين، واستدعت وفودا نيابية ونقابية وصحافية ونسائية لكي يطلعوا على المزايا الطيبة للمجتمع الأميركي، ثم تلاشى كل ذلك ولم نعد نسمع عنه شيئا، ذلك أن سياسة الولايات المتحدة تجاه العرب تستعصي على أي مخطط لتحسين السمعة، وهي وصفة جاهزة سلفا لإعلان فشل أي مسؤول مهما كانت كفاءاته الإدارية.

كيف يمكن تحسين صورة الولايات المتحدة، وهي تخوض حرب تجويع ضد الشعب الفلسطيني؟ كيف يمكن تحسين صورتها، وهي تهدد المنطقة كلها عبر ايران بحرب نووية؟ كيف يمكن تحسين صورتها، وهي تستعمل قرارات مجلس الأمن هراوة تضرب بها في السودان لفرض وجود قوات دولية في دارفور من دون موافقة حكومة السودان؟ كيف يمكن تحسين صورتها، وهي تحاصر سورية اقتصاديا وسياسيا وتريد أن تفرض عليها أين تفتح سفارات وأين تغلقها؟

إنها سياسة عجيبة، لا يمكن إلا أن تنشر حولها الكراهية، كراهية الشعوب والحكومات.

أما حين يقترب موعد الانتخابات النصفية للكونغرس، ويهدد نواب الحزب الجمهوري الرئيس بوش بمعارضته لأن سياسته ستقود إلى فشلهم في الانتخابات، فإن بوش يلجأ إلى استخدام أوراق مهترئة ليثبت نجاح سياسته، فيقوم فجأة بمد صلات الود مع النظام الليبي، بعد أن هاجر هذا النظام من المنطقة العربية إلى افريقيا، ومن دون أن نسمع أن افريقيا قد وافقت على استضافته. ويقوم بوش فجأة بالإعلان عن النجاح الكبير الذي يتحقق في العراق بسبب تشكيل الحكومة العراقية بعد ستة أشهر من الجدل المستعصي، ليس بين الخصوم بل بين الحلفاء، وبينما يعيش العراق أسوأ مراحل الفلتان الأمني، وبينما يعلن كبير جنرالات الجيش الأميركي، أن الجيش لا يستطيع أن يغادر محافظة عراقية واحدة، وهي جملة مختصرة تعني الفشل المُطلق لسياسة بناء قوة أمنية عراقية تريح القوات الأميركية من وعثاء السفر. وهكذا.. فإن الأمثلة التي يريد الرئيس الأميركي أن يقدمها لنواب حزبه كي ينجحوا في الانتخابات، لا تساعد أحدا منهم على تحسين هندامه أمام الناخبين، وتصبح مهمة البيت الأبيض تشكيل هيئة لتحسين صورة الإدارة الأميركية لدى المواطن الأميركي أولا، قبل التفكير في تحسين هذه الصورة لدى المواطن العربي.

ولكن ذروة هذا الفشل الأميركي تتمثل في سياسة التجويع التي تمارس ضد الشعب الفلسطيني. لقد ضغطت الرئاسة الأميركية بقوة من أجل إنجاز الانتخابات الفلسطينية، وهي تضغط الآن بقوة من أجل إلغاء نتائج الانتخابات، والمطلوب بعد ذلك أن يقتنع الناس بجدية الدعاية الأميركية حول الديمقراطية، فهل يستطيع جائع أن يفعل ذلك؟

إن الإدارة الأميركية تقاتل بضراوة لكي تحاصر حكومة حماس، ولكي تمنع وصول المساعدات المالية لها، ولكي لا تتمكن من دفع رواتب الموظفين، وهي تهدد الحكومات العربية كي لا تكسر هذا الحصار، وحين يتم كسره قليلا بدافع الخجل، فإنها تهدد البنوك العربية بأن لا تقوم بتحويل الأموال وإلا ستخضع للعقوبات على مستوى العالم. والنتيجة هي سياسة تجويع جماعية، ولشعب كامل، ومن خلال حلف دولي محكم، وهو أمر يحدث لأول مرة في تاريخ الحضارة الإنسانية. إن هذا التجويع جريمة إنسانية، وهو ليس جريمة حرب، إنه «جريمة سلام»، ولأول مرة تنشأ حاجة لتشكيل محاكم دولية لمعاقبة «مجرمي السلام»، الذين ينظمون مجازر جوع أين منها مجازر المعارك والحروب.

ولكن جريمة التجويع هذه، والتي تتم تحت الرايات الخفاقة لشعارات السلام والديمقراطية، توجد أزمة سياسية من نوع جديد، فأراضي الحكم الذاتي الفلسطينية هي حسب القانون الدولي أراض محتلة من قبل الجيش الإسرائيلي، ويتحمل الجيش المحتل دائما مسؤولية إدارة المناطق التي يحتلها، وتأمين حياة الناس فيها. وقد نشأ بعد اتفاق اوسلو عام 1993 وضع فريد في نوعه، إذ استمر الاحتلال بينما تولت السلطة الفلسطينية إدارة شؤون الناس وتأمين حياتهم بانتظار حل دائم ونهائي، ولكن هذا الحل الدائم والنهائي لم يأت، وفشل داخل منتجع كامب ديفيد عام 2000، وبدأت إسرائيل بعده، وبرعاية أميركية، في تدمير بنية السلطة الفلسطينية، دمرت أولا أجهزة الأمن، ودمرت بعد ذلك أجهزة الأمن والوزارات، وحاصرت أراضي الحكم الذاتي مانعة العمال الفلسطينيين من العمل، وتم ذلك على امتداد سنوات الانتفاضة الخمس، والتي بلغت ذروتها بحصار وقتل الرئيس الراحل ياسر عرفات. وحين جاءت حركة حماس إلى السلطة، بدأت حرب عالمية أميركية ــ إسرائيلية لمنعها من ممارسة الحكم، وبدأت هذه الحرب فورا بعملية التجويع الجماعية والشاملة، وتم بذلك أولا منع السلطة الفلسطينية (رئاسة وحكومة) من ممارسة مسؤولية إدارة شؤون الناس. وتم بذلك ثانيا استنكاف الاحتلال عن تحمل مسؤوليات المحتل برعاية شؤون الناس، فنشأ ما نسميه أزمة سياسية من نوع جديد، فلا المحتل يتحمل مسؤولياته، ولا السلطة التي تحكم في إطار سيطرة المحتل مسموح لها بأن تتحمل المسؤولية.

ما هو الحل إذا؟

الولايات المتحدة تحاول أن تبتكر حلولا لا سابقة لها. تقول إن المساعدات «الإنسانية» ستستمر، وبخاصة في نطاق الصحة والتعليم، ولكن المساعدات «السياسية» ستتوقف نهائيا، ولن تكون هناك مساعدات لدفع رواتب الموظفين، لأن ذلك يعني مساعدة حركة حماس على النجاح. «أي طبيب شبعان ومريض جائع. أستاذ شبعان وتلميذ جائع». وحين تكتشف الولايات المتحدة أن هذا الحل غير مجد، تقول إن المساعدات ستقدم إلى الرئاسة الفلسطينية وليس إلى الحكومة الفلسطينية، وحين يقول الرئيس محمود عباس إن الأموال حين تصله سيقوم بإرسالها إلى وزارة المالية، وهذا ما لا تريده الإدارة الأميركية، يتعطل كل شيء. هنا تتقدم اوروبا وتحاول أن تجترح المعجزة، فتقترح إنشاء صندوق دولي يتولى صرف الرواتب مباشرة، وبالاسم، لكل موظفي السلطة، وهم غارقون الآن في بحث كيفية تطبيق ذلك. وإذا سقط اسم موظف ما سهوا، فلا أحد يدري لمن سيوجه هذا الموظف شكواه.

ماذا يعني كل هذا الجدل العقيم؟

يعني وببساطة، أن الولايات المتحدة، وبمشاركة إسرائيل، تريد وضع الشعب الفلسطيني تحت الوصاية الدولية. يتم إسقاط اتفاق اوسلو السيئ الذكر، ويتم إسقاط خارطة الطريق، ويتم الصمت عن سعي حكومة إسرائيل لفرض حل منفرد، ويبدا التوجه فورا نحو فرض الوصاية الدولية، وسيكون الصندوق الذي سيتم إنشاؤه داخل البنك الدولي نواة حكومة لوصاية، سواء اعترف أصحابها بذلك أم لا، بينما تبدو السلطة الفلسطينية وكأنها راضية عن هذا الحل، أو كأنها راغبة فيه، ولعلها تدري، أو لا تدري، إن انطلاق نظام الوصاية هذا، يعني نهايتها كسلطة.

هل يوجد مخرج من هذا الوضع العقيم؟

نعم يوجد مخرج؛ بنده الأول أن استمرار المساعدات، لفترة من الزمن، هو واجب دولي يجب أن ينجز، وليس منة من أحد، لأن الدول الراعية لهذا النوع العجيب من التسوية السياسية، قبلت أن تنوب عن الاحتلال الإسرائيلي في تحمل المسؤوليات المالية لإدارة شؤون الناس. البند الثاني أن تبادر السلطة الفلسطينية إلى تعديل أو إلغاء الاتفاق الاقتصادي (متم لاتفاق اوسلو) المعقود بينها وبين إسرائيل (الاتفاق ينص على إعادة النظر فيه كل سنة)، من أجل إلغاء ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بإسرائيل وربطه بالدول العربية، أي من أجل كسر الاحتكار الإسرائيلي للاقتصاد الفلسطيني. والبند الثالث فتح المعابر الحدودية الفلسطينية باتجاه البلاد العربية، حتى يتلاشى هذا السجن الذي يتم حبس الفلسطينيين بداخله، وحتى يستطيع الفلسطيني أن يتوجه إلى البلاد العربية (وإلى العالم) للعمل بدلا من أن يكون مجبرا على العمل داخل إسرائيل فقط. ولا نظن أن الدول العربية مجتمعة عاجزة عن استيعاب 120 ألف عامل فلسطيني هم عدد العمال الذين يعملون داخل إسرائيل.

هل هناك قائد فلسطيني يجرؤ على تبني هذا المخرج؟

هل هناك دولة عربية تجرؤ على قبول هذا المخرج؟

هذا هو التحدي المفتوح أمام السلطة الفلسطينية، وأمام الحكومة الفلسطينية، بدلا من قرار المواجهات الأمنية التي صحونا على خطرها قبل أيام.