ميوعة واشنطن تشجع عنجهية شارون

TT

قد تكون هناك إمكانية لهدنة قلقة ومتأرجحة لكن ما يمكن الجزم والقطع به انه لا يمكن أن يكون هناك حل سياسي يضع عملية السلام في الشرق الأوسط وعلى كافة المسارات على الطريق الصحيح ما دام أن ارييل شارون في موقع المسؤولية وصاحب القرار في إسرائيل اللهم إلا إذا خرجت الولايات المتحدة من جلدها السابق واتخذت موقفاً حازماً على أساس مصالحها الحيوية في المنطقة وليس على أساس إملاءات مجموعات الضغط اليهودية.

فهل هذا ممكن..؟! بداية لا بد من الاشارة إلى أن الموقف المائع الذي اتخذه الجمهوريون بمجرد فوزهم في الانتخابات الأخيرة ووصولهم إلى البيت الأبيض هو الذي شجع ارييل شارون على أن يذهب بالتصعيد ضد الفلسطينيين، وضد سورية ولبنان أيضاً، إلى هذا الحد من الاستفزاز وإلى هذا الحد من تعريض عملية السلام في الشرق الأوسط إلى خطر الانهيار.

عندما ذهب شارون في أول زيارة له إلى الولايات المتحدة بعد أن أصبح رئيساً لوزراء إسرائيل وبعد أن فاز الجمهوريون في الانتخابات الأخيرة وجد خلافاً لما كان يتوقعه، مواقف متملقة والتقى بمسؤولين كان كل همهم التأكيد على استمرار الولاء لاسرائيل رغم خروج الديموقراطيين من الحكم ورغم مواقف اليهود الأميركيين في معركة الانتخابات الرئاسية.

لم يسمع ارييل شارون، الذي ذهب إلى واشنطن بافكار وتوجهات وسياسات متطرفة معروفة، الا ما شجعه على تنفيذ وتطبيق هذه السياسات لتحطيم إرادة الفلسطينيين وفرض الاستسلام عليهم. وقد تجلى الموقف الأميركي بأسوأ صوره وأشكاله من خلال التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية كولن باول والتي أكد من خلالها التزام بلاده بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس بعد أن كرر أن المدينة المقدسة هي عاصمة إسرائيل «الأبدية».

ثم بعد ذلك جاءت الطامة الكبرى فقد فهم شارون استخدام الولايات المتحدة لحق «الفيتو» في مجلس الأمن الدولي لاحباط مشروع القرار، الذي ينص على ضرورة توفير حماية دولية للشعب الفلسطيني، خلال انعقاد القمة العربية الأخيرة، على أنه الترجمة الفعلية لمساندة الإدارة الأميركية الجديدة للسياسات الاسرائيلية ضد العرب والفلسطينيين.

لقد جاءت الانتقادات التي وجهها الناطق بلسان الخارجية الأميركية لعودة الجيش الاسرائيلي لاحتلال أجزاء من غزة تخضع للسلطة الوطنية الفلسطينية وفقاً لاتفاقيات أوسلو، متأخرة جداً رغم أنها أرغمت الاسرائيليين على الانسحاب من هذه الاجزاء. ويقيناً أن الأمور ما كان يمكن أن تصل إلى ما وصلت اليه لو أن الموقف الأميركي لم يتسم بالميوعة والتخاذل والتملق لشارون والحكومة الليكودية الاسرائيلية.

حتى قبل أن يصبح رئيساً للوزراء فإن الولايات المتحدة تعرف تمام المعرفة مواقف شارون وتوجهاته وتعرف أنه محشوٌ بتعاليم «تلمودية» مدمرة، وأنه يفهم السلام على أساس هيمنة إسرائيل على المنطقة واحتقار شعوبها وطرد الشعب الفلسطيني من أرضه وكل ذلك وفقاً لتعاليم زعيم حركة «شاس» اليمينية المتطرفة عوفاديا يوسف: «إقتلوا العرب.. وعلى كيف كيفك.. وكالأسد افترسوا عرفات.. وكالدب افترسوا أبو مازن».

إذا كان بوش الابن، الذي كان والده مديراً للـ «سي. آي. أيه» ويعرف المنطقة كما يعرف تضاريس كفه، لا يعرف شارون وسياساته وتوجهاته ولا يعرف أنه مجرم حرب وإنه ارتكب جرائم إنسانية في قبية وصبرا وشاتيلا ويفهم السلام على أنه إهانة الفلسطينيين وتركيعهم وفرض الارادة الاسرائيلية على المنطقة، فإن هذه كارثة بالنسبة لدولة لها مصالح حيوية في هذه المنطقة الحساسة.

يبدي الأميركيون استغراباً إزاء التعاطف الجماهيري العربي مع الرئيس العراقي صدام حسين ورفع التظاهرات الفلسطينية والعربية صوره وشعاراته، وينسون أن مسؤولية هذا تقع عليهم وليس على هؤلاء المتظاهرين، فعندما تتبنى الولايات المتحدة أشد السياسات الاسرائيلية تطرفاً، وعندما يعلن باول في ذروة الصراع والمواجهة ان القدس عاصمة إسرائيل، وعندما تستخدم واشنطن حق «الفيتو» في مجلس الأمن ضد مشروع قرار لمصلحة الفلسطينيين، فإنه طبيعي جداً أن يكون «عدوّ عدوي صديقي»، وأنه تحصيل حاصل أن يكون التعبير عن الرفض الشعبي العربي للسياسات والمواقف الأميركية على هذا النحو وبهذه الطريقة.

المؤكد ان الولايات المتحدة تعرف تمام المعرفة أن الساحة الشعبية العربية ليست معها، لا بل ضدها، والمؤكد أنها تعرف أن السبب ليس صدام حسين ولا الحصار المفروض على العراق، بل القضية الفلسطينية. فالانحياز الأخير لاسرائيل تجاوز كل الحدود وإدارة الظهر لكل ما يعتبره العرب والفلسطينيون ثوابت لا يمكن للسلام في المنطقة أن يرى النور بدونها هي سبب كل هذا الكره الشعبي العربي للسياسات الأميركية.

إذا أرادت الولايات المتحدة تغيير المناخ السائد ضدها في المنطقة فإن مدخلها إلى ذلك هو القضية الفلسطينية، فالقضية الفلسطينية هي الأساس ولها الأولوية والمطلوب في هذه الحالة ليس نقل البندقية من كتف إلى الكتف الآخر فهذه مسألة نعرف أنها غير ممكنة وغير متوقعة على المدى القريب المنظور بل اتخاذ موقف فيه الحد الأدنى من التوازن ويوفر انطباعاً بأن أميركا تحاول أن تكون منصفة.

لا يفهم الرأي العام العربي لماذا تنحاز الولايات المتحدة كل هذا الانحياز لاسرائيل مع أن مصالحها تفرض عليها مواقف متوازنة إزاء الصراع العربي ـ الاسرائيلي، ولذلك فإن العرب على المستوى الشعبي لا يجدون ما يعبرون به عن رفض هذا الانحياز إلا الاصطفاف في الجانب الآخر وتأييد الرئيس العراقي صدام حسين في السراء والضراء.

والآن فإن هناك مأزقاً خطيراً، فوراء دفة القيادة في اسرائيل رجل يتصرف كالثور الهائج في مستودع من الخزف يهاجم يميناً وشمالاً ويحطم كل شيء وهو سيدفع المنطقة بالتأكيد إلى الانفجار إذا لم تبادر الولايات المتحدة وبسرعة لتدارك الأمور ووضع حد لهذه السياسات المدمرة التي أعادت عملية السلام إلى المربع الأول.

الولايات المتحدة هي الراعي الوحيد لعملية السلام، فبعد مؤتمر مدريد مباشرة سقط الدور الروسي وتراجع الدور الأوروبي واختفى نهائياً الدور الصيني الذي لم يكن له اي وجود فاعل بالأساس ولهذا فإن المسؤولية كلها تقع على كاهل واشنطن والمطلوب منها إذا أرادت أن تكون مقبولة في المنطقة أن تضع حداً لهيجان شارون وأن تجنب المنطقة انفجاراً ستكون آثاره مدمرة.

يواصل شارون سياسة الهاوية، وليس حافة الهاوية، وهو بالاضافة إلى الحرب المسعورة التي يشنها على الشعب الفلسطيني يفتعل مواجهة مع سورية ويستفز مصر ويرفض المبادرة الأردنية ـ المصرية التي هي مبادرة عربية لنزع فتيل الانفجار. ومع ذلك فإن الولايات المتحدة التي لها مصالح لا حدود لها في المنطقة العربية والتي تتحدث عن أنها بصدد إعادة صياغة سياساتها بالنسبة لـ «الحالة» العراقية ـ الكويتية، لا تزال تتبع نفس المواقف المنحازة انحيازاً فجاً لاسرائيل والسياسات الاسرائيلية.

عندما يقوم شارون بكل هذا الذي يقوم به ويعلن شروطاً لاقامة الدولة الفلسطينية وحل النزاع في المنطقة لا يمكن ان يقبل بها حتى العميل للموساد الاسرائيلي من درجة متدنية، فإن المسؤولية تقع على الولايات المتحدة، فهي الراعي الأول لعملية السلام ومصالحها في المنطقة تفرض عليها اتخاذ مواقف حاسمة وقاطعة.

لا يؤدي قول الأميركيين: «انهم سيساعدون في العودة إلى طاولة المفاوضات ولكن المسؤولية تقع على كاهل الطرفين المعنيين» إلا إلى إستمرار شارون في غيه وعنجهيته وتصعيد العدوان ضد الشعب الفلسطيني. وحقيقة أن ما تقوله الولايات المتحدة غير مقنع على الاطلاق بل أنه يرسخ القناعة لدى الشارع العربي بأن أميركا هي التي تقف وراء كل ما تقوم به إسرائيل، وأنها المسؤولة عن انهيار الوضع في الشرق الأوسط على هذا النحو.

قال شارون وهو يقول بكل وضوح وصراحة، ان اتفاقيات أوسلو انهارت وان السلام غير ممكن، وانه لا بد للفلسطينيين من أن يوافقوا على ما هو معروض عليهم، وهو لم يعرض عليهم سوى الاستسلام، وهذا معناه العودة إلى ما قبل مؤتمر مدريد، ومعناه المزيد من الكره للاميركيين في المنطقة والمزيد من استهداف مصالحهم ووجودهم في الشرق الأوسط.

لا شك في ان هناك تقدماً بالنسبة لمفردات البيانات الأميركية في الأيام الأخيرة من بينها وصف الرد الاسرائيلي «على الهجمات الفلسطينية»!! بأنه «مبالغ فيه». لكن كل هذا لن يجدي ولن يغير في الأمر شيئاً إذا لم تحسم وتحزم الولايات المتحدة أمرها وتلزم إسرائيل بوقف الحرب المسعورة التي تشنها على الفلسطينيين وتجبر شارون على القبول بالمبادرة المصرية ـ الأردنية.

لا يطلب العرب والفلسطينيون في هذه المرحلة سوى التزام إسرائيل بتفاهم شرم الشيخ الذي كان من ألفه إلى يائه صناعة وصياغة أميركية، فالسلام مع هذه الحكومة الاسرائيلية يبدو أنه وكما هو واضح غير ممكن إلا إذا اتخذ جورج بوش الابن موقفاً حازماً إزاء شارون كالموقف الذي اتخذه والده عشية انعقاد مؤتمر مدريد إزاء رئيس الوزراء الاسرائيلي الأسبق إسحق شامير.

إذا سقطت المبادرة الأردنية ـ المصرية، التي هي في حقيقة الأمر مبادرة عربية تم الاتفاق عليها في القمة العربية الأخيرة، فإن الأمور ذاهبة إلى الانهيار الشامل، وأن الولايات المتحدة ستواجه مآزق حقيقية على صعيد وجودها ومصالحها في المنطقة، وانها ستفشل حتماً في صياغة وترجمة ما تفكر به بالنسبة للمسألة العراقية.