دعوة مجددة إلى حوار شعبي عراقي ـ كويتي

TT

مثلما توقعنا في مقالتنا المنشورة في صحيفة «الشرق الأوسط» صباح يوم انعقاد قمة عامان في 3/27/2001، بأن ملف الأزمة العراقية سيظل بعيداً عن الحل في ذلك الاجتماع، لأن عنصراً أساسياً سيتحكم بطريقة وأسلوب الحوار هو عقدة العلاقات العراقية الكويتية، وكانت وجهة نظرنا وكذلك وجهة نظر العديد من المعنيين العراقيين والعرب هي إخراج قرار الدعوة إلى رفع الحصار عن تلك العقدة بصورة مؤقتة لحين انضاج المناخ المناسب الذي يسمح للطرفين العراقي والكويتي الجلوس على طاولة المصارحة الموضوعية، ووضع مستقبل الشعبين الشقيقين المتجاورين في مقدمة الحسابات، إلا أن ما حدث خلال اجتماعات ومداولات الساعات القليلة الساخنة في عمّان، قد جعلت الأغراض والمناورات السياسية تبتلع الفرصة التاريخية التي كان ينتظرها الشعب العراقي برفع الحصار عنه، إضافة إلى عدم توفر القناعات السياسية لدى جميع المسؤولين العرب بإمكانية عرض هذا الملف، وتحت شعور بتحقق الفشل دخلوا بصورة خاطفة في كوّة النار العراقية ـ الكويتية، واستعجلوا الخروج منها لاعتبارات عديدة، وبذلك تراجع المطلب الجوهري برفع الحصار بعد نهاية قمّة عمان إلى الخلف، وتصدرت في الخطابات الرسمية والإعلامية حسابات الخسارة والربح بمقاييس المواقف التي طرحت حول تلك العقدة.

ومن دون الدخول في تفاصيل مفردات الورقة الكويتية التي تمّ تطويرها في مداولات واجتماعات القادة العرب، وادعاءات الوفد العراقي عدم اطلاعه على تفصيلاتها بوقت مبكّر، فإن الجو العام الذي خلقته تلك المداولات والنيّات الصادقة للقادة العرب قد أنتجت صيغة حسب تصريحات وزير الخارجية العراقي في مؤتمره الصحافي بتاريخ 3/28/2001 كان يمكن أن تشكّل قاعدة مفتوحة لحلول مأمولة للعلاقات العراقية ـ الكويتية في وقت يتم فيه الحصول على قرارات مباشرة ومادية لصالح الشعب العراقي برفع الحصار عربياً، والتخلّي العربي عن المسؤوليات في منطقتي الحظر.. بغض النظر عن النيّات والدوافع.. فالحصيلة التي تكونت في الإنضاج الأخير للورقة كانت تتعلق بهواجس الكويتيين المستقبلية، وبالقرارات الدولية وآثارها والتي وقّعت عليها الحكومة العراقية ومن بينها الاعتراف بسيادة وحدود الكويت.. ولا تصل مدلولات الصياغات اللفظية المقترحة درجة تضييع الفرصة السياسية أمام هدف كبير يرتبط بحاضر ومستقبل الشعب العراقي وهو رفع الحصار.. فالقرارات السياسية تحكم بنيّاتها وبمكاسبها في الحاضر وليس بمستقبلها.

في مقاييس اللعبة السياسية فإن أوراق الكسب كانت غالبيتها بيد الكويتيين قبل المؤتمر وخلاله (دعم خليجي ومساندة عربية.. قرارات الشرعية الدولية التي ما زالت فاعلة.. ظهير دولي مؤثر.. استحقاقات ذات طابع إنساني معروف.. البحث عن الأمان في ظلّ وقائع الماضي) أما العراقيون فكانت ورقتهم الرئيسية (آثار الحصار على شعب العراق الضحيّة.. دعم عربي واسع)، إضافة إلى (التعرض للاختراق الأمني السيادي بالقصف الأميركي البريطاني المستمر) وبحسابات لا تحتاج إلى دهاء سياسي كان ينبغي على اللاعب العراقي إمساك الخيط بأدنى المكاسب، أو الانسحاب من اللعبة وتأجيلها، لكن ذلك لم يحدث. في قمّة عمان كانت هناك عملية اختبار لإمكانيات اللاعبين العراقي والكويتي، لكنه اختبار قتل الفرص المتاحة للعبة الحقيقية.

كان يمكن أن يشكّل قرار قمة عمان وفق الانضاج الأخير للورقة بداية حقيقية لتحوّل كبير في العراق والمنطقة.. ينقل العراقيين من محطات الانتظار إلى موقع ملموس فيه بعض الانفراج الاقتصادي والاجتماعي الذي يشكل بداية حقيقية للانفراج السياسي، ويضعف إمكانيات استمرار فعالية التدخل الأميركي في الملف العراقي التي لم تكن في لحظة من اللحظات أقوى مما هي عليه الآن، وهو تدخل لا يعبّر عن مصلحة الشعبين العراقي والكويتي، وإنما عن المصلحة الأميركية ذاتها.

ولو تحقق هدف إعادة تعريب الأزمة العراقية على صعوبته ومشقة الوصول إليه في اجتماع القادة العرب الخاطف في عمان لأصبحت بين أيدي العراقيين والعرب اليوم قاعدة انطلاق حقيقية لانفراج فعلي لمحنة الشعب العراقي، في رفع الحصار عنه، وكان يمكن لهذه القاعدة أن تتطور إلى خطوات تالية تغلق منافذ المناخ المتردي لعقد من الزمن، وتفتح الفرص أمام استقرار أمني يخدم الشعبين الشقيقين العراقي والكويتي، ومنطقة الخليج.

لكن حس المؤامرة الذي ما زال محركاً للأداء السياسي العراقي، على الرغم من نتائجه الكارثية، والحيّز المحدود لصلاحيات الوفد العراقي الحاضر في القمة، قد ضيّع إحدى الفرص السياسية الكبيرة التي خلقتها تراكمات معاناة الحصار على العراقيين والتعاطف القومي العربي الصادق شعبياً وبين غالبية الأوساط الرسمية العربية. لقد أدت خسارة هذه الفرصة السياسية إلى إحياء مناخ الخطابات السياسية والإعلامية العراقية والكويتية التسعينية، وتوفير المسببات لإنجاح الإصرار الأميركي على إبقاء الحصار على العراق، أكثر من أي وقت مضى، وسيحصل خلط وتشابك في هدف الدعوة إلى رفع الحصار يضع السياسيين والمثقفين العراقيين من خارج السلطة، والعرب المتحملين لهذه المسؤولية الوطنية والقومية الصادقة في مواقف الدفاع مجدداً عن دعوتهم، والتخلص من الحرج الذي أحدثه الموقف الرسمي العراقي الذي أصبح قريباً من حالة تكريس الحصار وليس العمل على رفعه..

وقد تكون هذه الصورة مبعثاً لارتياح الديبلوماسية الكويتية، وإزالة لحالة الحرج في علاقاتها العربية، إلا أنها وللأسف الشديد تشكّل إحباطاً للعراقيين ونخبهم السياسية والثقافية لكونها أبعدت كثيرا الهدف النهائي برفع الحصار العربي والذي لاح في الأفق في الفترة الأخيرة..

ملف العلاقات العراقية ـ الكويتية لم ينضج بعد للتداول الرسمي ثنائياً أو عربياً، سواء قبل انعقاد قمة عمّان أو بعده، ولعل حرص أبناء البلدين على أمن حاضرهما ومستقبلهما يجعل من التمسك بتوفير مناخ الحوار مسؤولية تاريخية، وإن المدخل السليم لفتح هذا الملف هو من خلال القاعدة الشعبية السياسية والثقافية الكويتية والعراقية، وقد سبق أن عرضنا هذه الفكرة في أكثر من مناسبة وفي الوسائل الإعلامية والصحافية العربية.. ومع تقديرنا للجهود التي بذلتها بعض الأوساط الشعبية البرلمانية والصحافية الكويتية في العامين الماضيين، المستشعرة لمخاطر الظروف المستقبلية على الشعبين، والتي وضعت عنوان (العلاقات العراقية ـ الكويتية وآفاق المستقبل) كمنفذ جوهري من منافذ الخروج من الأزمة، إلا أن بعض المبادرات كانت محكومة بالأغراض السياسية والإعلامية التعبوية التي صممت من أجلها، وليس من أجل البحث المعمّق لمسبباتها والتي كان الاجتياح العسكري العراقي للكويت، المظهر الأكثر قبلية وانغلاقاً، في فصولها، وما تركه من آثار اجتماعية واقتصادية وسياسية على البلدين الشقيقين.

إن بحث ملف العلاقات العراقية ـ الكويتية يتطلب الدخول في العديد من المحرمات التي قد لا ترتاح الأوساط الحاكمة في كلا البلدين الاستماع إليها أو التقرّب منها، لكن تفكيك الأزمة يتطلب الجرأة في النظر الى جذورها وما أحدثته من جروح وأعراض جانبية كثيرة في الميادين السياسية والاجتماعية والاقتصادية والاستراتيجية لكي يتم وضع الحلول والاستحكامات التي توفر الأمن والاستقرار للشعبين الشقيقين وبما يتطابق وقيمهما القومية والإسلامية.. ويجعل مستقبلهما أكثر استقراراً.

ولكل من العراق والكويت العديد من النخب الثقافية والسياسية من خارج السلطات الحاكمة القادرة على الدخول في هذا الملف بما تمتلكه من إمكانيات فكرية وسياسية وخبرات مجرّبة في بحث مفرداته، ومن نيات صادقة وغير خاضعة للقيود الفئوية الضيّقة، وأغراضها السياسية الذاتية، وتشكّل نسيجاً شاملاً للأطياف السياسية المختلفة في كل من العراق والكويت، اضافة للخبرات الأكاديمية العلمية في ميادين السياسة والاجتماع والاقتصاد والاستراتيجية، ويمكن لأي جهة شعبية عراقية أو كويتية تتحمس لهذه الفكرة ولديها القدرات على تحويلها إلى مشروع عملي، الدعوة إلى اجتماع تحضيري أوّلي خارج الكويت والعراق، لوضع الخطوط العامة لهذا الملف المهم، ثم بعد ذلك تعقد ندوة رئيسية بعناوين عديدة تهيأ لها البحوث والدراسات المستندة إلى المعلومات الدقيقة، وكذلك الآراء والاجتهادات الفكرية والسياسية، وتصبح وثائقها بمثابة توصيات تقدّم إلى القيادات السياسية والرأي العام في كلا البلدين، وتعلن على جميع المواطنين في البلدان العربية بوسائل الإعلام والنشر المختلفة.. وقد يقرر المجتمعون مواصلة ومتابعة هذا الجهد السياسي المهم، ويعهدوا إلى لجنة تتشكل من رموز فكرية وسياسية شعبية عراقية ـ كويتية ومن حكماء الرأي في البلدين.

إن مثل هذه القضية الحيوية المتعلقة بحاضر ومستقبل شعبين شقيقين متجاورين.. تتطلب مثل هذا الجهد السياسي والفكري الشعبي.. وإن إهمالها، وتركها للسياسات الحكومية التي تقدّم المكاسب الآنية على المصالح المستقبلية، سيزيد من تعقيد الظروف ويبعد عن الشعبين الشقيقين العراقي والكويتي حالة الأمن والاستقرار.

[email protected]