مدائن صالح وقاسم

TT

مرت هنا ريح وما كتبت حتى محت أثراً من غير اسماء أشباح أشخاص هنا وقفوا يستنهضون بلاداً كلما هتفوا يهفو لهم خبر من يستجيب لهم ريح رجال نسوة حجر ماذا سيبقى لهم في حسرة الماء شهادتي بقاسم حداد وصالح العزاز مطعونة سلفا عند من يدعون امكانية النقد الحيادي، فهي موشومة بالحب ولا يقيمها أي جرح وتعديل فليس سرا اني اعتبر الاثنين من الفرقة التي نجت بروحها في حقبة انعشت الاجساد، ونخرت الارواح.

والتعبير هنا ليس من فصيلة مصطلحات الغزالي ولا تفريعات الشهرستاني في الملل والنحل، فالفرقة المعاصرة الناجية روحيا في منطقة الخليج استنادا الى رصد حقبتين من التعامل القريب والبعيد هي فئة نبيلة الروح عاشت فترة الطفرة، فلم يغرها رنين الذهب ولا انساقت خلف الجوانب المادية والمظهرية والاستهلاكية التي شغلت بقية الفرق انما ظلت مخلصة للاعمق والابهى والانبل والابقى.

صالح العزاز وقاسم حداد من قبيلة تعشق الحياة بتفاصيلها الحميمة والصغيرة والمنمنمة، وتجد في بوح الطبيعة والانسان، وفي جدلية تفاعلهما حزنا وفرحا وحبا وغضبا ويأسا وبهجة منجما خالدا للفن ذلك الاختراع العظيم الذي قاوم به البشر سطوة الغناء ليسجلوا اسطورة الخلود على صفحة الريح والماء والرمل والشجر، وبالصوت والايقاع والتخييل والتصوير.

ان الكتاب المشترك «المستحيل الأزرق» الصادر حديثا للشاعر البحريني والفنان السعودي من اجمل ما انتجت تلك الفرقة التي نجت بروحها من طوفان التغريب والاستلاب ففيه تتعانق حساسية المصور مع مخيلة الشاعر فيأتي الشعر رقراقا كالنهر العذب وتتكامل صور القصيدة مع صور الكاميرا وهل الشعر المكثف إلا جنس من التصوير كما نص الجاحظ الاب الروحي للناجين من سطوة زيف المتاع الزائل والقشور.

لقد وضع قاسم حداد مقطوعة شعرية لكل صورة من صور العزاز التي التقطها على مدار اعوام وفي امكنة مختلفة من جزيرة العرب ثم تمت ترجمة النصوص الى الفرنسية، والانجليزية وظلت الصورة ـ وهنا عظمتها ـ لا تحتاج الى ترجمة ثم تقابلت في «المستحيل الأزرق» نصوص اللغات الثلاث مع صور الخزامى والاقحوان والصبار والصحراء بسفنها وناسها وخطوط رملها التي تستعصي على ضاربات الودع وقارئات الفنجان.

وفي صور العزاز التي كانت الاصل الاول لسيمفونية شارك فيها اكثر من عازف عين تصرخ بالفرح وتنبه الناس الى ذلك الجمال المنسي في الدهناء، ومدائن صالح، وينبع، وصحراء النفود، والقصيم مسقط رأس ذلك الفنان ـ المصور ـ الذي ترك للآخرين حوريات البحار وتفرغ لمغازلة حورية الصحراء، وطعوس الرمل الاحمر لمن يعرفها كما عرفناها معا ذات يوم على سفوح طويق حوريات ساحرات الفتنة مكتملات التكوين.

«المستحيل الأزرق» ليس كتابا، فحسب لكنه مدائن اسطورية شيدها صالح العزاز بالكاميرا ولون نوافذها وشرشب سقوفها قاسم حداد بالشعر فهل من عجب ان يكون الاثنان من الفرقة التي عصمت نفسها وتحصنت باللب والجوهر وحاولت ان تبني وتشيد في زمن الهدم فيه اعلى صوت من التشييد والبنيان.