الفاتيكان وإسرائيل: صداقة خجولة!

TT

بعد ما يزيد على عام من زيارة البابا يوحنا بولس الثاني «التاريخية» الى الأردن ومناطق الحكم الذاتي الفلسطيني واسرائيل، ها هو رئيس الكنيسة الكاثوليكية يوشك ان يحل ضيفاً على سورية. ولعل السبيل للاطلاع على الخطوط العريضة لسياسة الفاتيكان حول الشرق الأوسط هو تسليط الضوء على مبدأ الحياد الايجابي الذي تلتزمه هذه الديبلوماسية حيال القضية الفلسطينية.

تميزت ولاية البابا الحالي بصورة خاصة بالتقرب من بلدان غير كاثوليكية، خصوصاً انه سعى دائماً الى توطيد الأواصر بين كنيسة روما والأديان العالمية الأخرى، بهدف معالجة اوضاع الجاليات الكاثوليكية، فضلاً عن وضع خطط مشتركة للحد من انتشار النزعات المادية التي تشكل في نظر الفاتيكان خطراً مبيناً على القيم الروحانية ومكانة الاديان كلها، وطبقا لما ذهبت اليه آخر المنتديات الدولية التي عقدت في حاضرة الفاتيكان تحت شعار «الحوار ما بين الاديان»، كانت الشيوعية حتى وقت غير بعيد الخصم الدنيوي الأول للدين بصورة عامة قبل ان تخلي مكانها للتيار الرأسمالي المتطرف.

وفي العادة، تحظى الزيارات البابوية باهتمام اعلامي كبير تستغله ديبلوماسية روما لتأكيد مجدداً رغبتها في اجراء حوار بناء مع المعتقدات الاخرى. كما تفسح المجال في الوقت ذاته لجدال ديني ساخن، مما يدفع البعض الى اعلان تحفظهم على هذه الرحلات بوصفها تهدف الى تنفيذ مهمة تبشيرية مقنعة لنشر المذهب الكاثوليكي وتعزيز نفوذ الفاتيكان. وهذه الاعتراضات ليست جديدة، اذ ترددت عندما توجه البابا الى الهند اواخر عام 1999، ونشهدها حاليا من خلال الأوضاع السائدة في الكنيسة الارثوذكسية في اليونان، أولى محطات رحلة البابا القادمة نحو الشرق.

الا ان زيارة يوحنا بولس الى فلسطين العام الماضي اكتسبت بعداً سياسياً وتاريخياً استثنائياً، نظرا لخصوصية الملف الفلسطيني وتداعيات القضية اقليميا ودوليا. وقد رحب كثيرون بالزيارة، متوقعين انها ستعود بالفائدة على المسيرة التفاوضية بين الفلسطينيين ودولة اسرائيل. وعلى الرغم من ان الرحلة حظيت بتغطية اعلامية لافتة للنظر، فإن تفاقم الأزمة الفلسطينية على كافة المستويات بعد مرور سنة فقط على الزيارة، يبرهن على ان النداءات التي وجهها البابا داعياً الجميع الى التفاهم والتعايش السلمي لم تجد شيئا، ويبدو ان منهج الحياد الذي ينتهجه الفاتيكان الحريص على الموازنة بين الطرفين المتنازعين هو في آخر المطاف نوع من الانحياز السافر الى اصحاب القوة، وليس وقوفاً الى جانب اصحاب الحق.

والواقع ان تلك الزيارة توجت مسيرة تقارب بين الفاتيكان ونظام تل ابيب تواصلت على امتداد عدة عقود، ومهما ازداد صخب مزاعم الدعاية الصهيونية حول تعاطف الكنيسة الكاثوليكية مع العرب ونفورها من اسرائيل ففي الحقيقة لم تعترض روما قط على المشروع الصهيوني، وانما اكتفت بإبداء تحفظها على بعض من بنوده. وقد اعتبر البعض ذلك ضربا من ضروب الرفض القاطع.

وكانت الجماعات اليهودية النافذة، والهيئات العالمية المتعاطفة معها قد انتقدت روما قبل عام 1948 وما بعده، بسبب عدم حماسها لدعم الخطط الاستعمارية في فلسطين، ولإعراب الفاتيكان عن قلقه على مصير مسيحيي فلسطين، وترافقت هذه الانتقادات مع حملات دعائية شرسة كان هدفها تسليط الضوء على ما زعمت انه «عداء الفاتيكان للسامية» وعلاقته المشبوهة مع المانيا النازية في الثلاثينات. ويشار في هذا السياق الى ان الحملة المكثفة التي تتعرض لها بين الفينة والاخرى شخصية البابا بيوس الثاني عشر (1939 ـ 1958) تعود كما يبدو الى تجاهله المزعوم للمحرقة النازية. لكن الانطباعات شيء والحقائق شيء آخر. وفي الواقع فإن الدافع الحقيقي للنقمة التي تكنها الجماعات الصهيونية للبابا بيوس هو امتناعه عن التطبيل للمشروع الصهيوني ودعواته المستمرة الى ابقاء الأماكن المقدسة المسيحية تحت إمرة الكنيسة أو تدويلها. ومع ذلك، لا يجوز اعتبار بيوس الثاني عشر من مناهضي الخطة الصهيونية، اذ انه يتعرض علنا للمشروع. وثمة مستندات ووثائق عدة تؤكد عدم وقوفه موقفا منتقدا. والأرجح ان يعود جزء لا بأس به من الحقد الصهيوني على هذا البابا الى التحفظات التي ابداها حول الخطة الاستيطانية وفلسطين، وجاء ذلك متناقضاً مع الحماس الملتهب الذي اظهرته مجموعات مسيحية ولا سيما البروتستانتية التي رحبت بالمشروع اعتقادا منها ان تأسيس دولة اسرائيل سيمهد الطريق امام رجوع المسيح وحلول يوم الحساب أي ما يعرف بـ«تاريخ الخلاص». ولمفهوم تاريخ الخلاص دوره في الدعم الذي تمنحه بعض المنظمات البروتستانتية لاسرائيل تحت لواء «الصهيونية المسيحية»، وهو تيار لم ينل قدراً كبيراً من الرواج في الاوساط الكاثوليكية وان كانت هناك رموز لاهوتية قد تعلقوا به.

ان الحرص على الأماكن المسيحية المقدسة وشؤون الرعية احتل مكانا بارزا في اداء من خلفوا بيوس الثاني عشر على زعامة الكنيسة الكاثوليكية بدءا بيوحنا الثالث والعشرين ومرورا ببولس السادس وانتهاء بيوحنا بولس الثاني. الا ان الاخير ذهب ابعد من غيره في تطوير العلاقات مع اسرائيل. وبغض النظر عن الصلات العريقة ليوحنا بولس الثاني بجماعات يهودية بولونية قبل توليه السدة البابوية عام 1978، ثمة عامل رئيسي يفسر التقارب الفاتيكاني الاسرائيلي هو التحالف غير المعلن بين يوحنا بولس الثاني والرئيس الأميركي الاسبق رونالد ريغان من اجل بناء استراتيجية مشتركة ضد الاتحاد السوفياتي. ودفع هذا التحالف بالفاتيكان الى «احترام» المكانة البارزة التي كانت اسرائيل ولا تزال تحتلها في السياسة الخارجية الأميركية، ومما ينم عن تحسن علاقات الفاتيكان مع اسرائيل الترحيب الواسع الذي لقيته زيارة البابا لدى قطاعات رسمية شتى وعلى سبيل المثال، قال كبار الحاخامات ان كنيسة روما قد تحولت الى واحد من افضل اصدقاء الشعب اليهودي بعدما كانت عدوا لدودا له، واذا تذكرنا ان الخطاب الصهيوني التقليدي يستعمل مفردتي «يهودي» و«اسرائيلي» ككلمتين لهما ذات المعنى فإن عبارة الحاخامات بالغة الدلالة. والواقع ان كنيسة روما قد دعت قبل انطلاق مفاوضات السلام في الشرق الأوسط الدول العربية الى اقامة علاقات مع اسرائيل على الرغم من انها لم تُقِمْ علاقات رسمية مع نظام تل ابيب حتى اواسط التسعينات، وكذلك سارعت السلطات الكنسية تاريخياً بتهدئة مشاعر الغضب لعدد كبير من الرهبان والقساوسة الفلسطينيين وغير الفلسطينيين المستائين من سكوت كنيستهم عن التوسع الاسرائيلي. وتجدر الاشارة هنا الى احتجاجات رهبانية الفرانسيسكان عام 1917 على تصريح البابا بينديكتوس الخامس عشر (1914 ـ 1922) بأن الكنيسة لن تعارض الاستيطان الصهيوني اذا ما حصلت على ضمانات بشأن ادارة الأماكن المقدسة المسيحية. ولا ننسى النداءات اليائسة التي يطلقها الآن الزعماء الروحيون لكاثوليكيي فلسطين كميشيل صباح رئيس الطائفة اللاتينية (ناهيك عن قادة المذهب الارثوذكسي) من أجل كبح جماح همجية الماكينة الحربية الاسرائيلية. ولا حاجة للقول ان مثل هذه النداءات لم تلق آذانا صاغية لدى القيادة الكنسية التي ترفض ان تدين اسرائيل بصراحة، بحجة ان ذلك سيخل بمبدأ الحياد وعدم التدخل في شؤون الدول الخارجية الذي يصر الفاتيكان على التشبث به.

واثبتت رحلة البابا ايضا ولو بصورة ضمنية ان الحياد الديبلوماسي حيال مأساة فلسطين سيؤدي بالضرورة الى وضع المسيحيين الفلسطينيين على هامش النزاع. وتحفل الكتابات الكاثوليكية الرسمية بالتلميحات الى ان القضية الفلسطينية لا تعني المسيحيين الذين همهم الوحيد هو حرية العبادة ولا مطالب سياسية او اجتماعية لهم في اسرائيل على حد تعبير صحيفة كاثوليكية اسبانية مقربة من الفاتيكان، وكأن هؤلاء المسيحيين ونسبة كبيرة منهم غير كاثوليكية، يعيشون خارج المكان والزمان. ومما يدل على تناقضات ديبلوماسية الحياد ان منشورات الفاتيكان حريصة منذ اندلاع الانتفاضة الحالية على عدم المساس بالطابع اليهودي لدولة اسرائيل، ولذلك تجدها تتحدث بلهجة خجولة تتجنب تحديد المسؤوليات وتسمية الاشياء بأسمائها، مكتفية بالاشارة الى المضايقات التي يعانيها السكان المسيحيون في فلسطين من جراء تضييق الخناق الاقتصادي على العرب وشن الغارات العسكرية، واللافت للنظر ان هذا الحذر يتحول الى هجوم صريح عندما تتعلق المسألة بأوضاع المسيحيين في دول اخرى تعمل حكوماتها على «اسلمتهم» والغريب ان مسؤولي الكنيسة يؤكدون، ردا على من يدعون الى التمسك بموقف اكثر وضوحاً ازاء مأساة فلسطين والاستغناء عن التعميم والغموض، بأن كنيستهم تترفع عن المسائل السياسية للتركيز على الانسانية منها، غير ان هذه القاعدة لا تطبق اذا تعلق الأمر بالدول الاسلامية، فلماذا الكيل بمكيالين؟

ولحياد الفاتيكان تجليات خطيرة بالنسبة لقضية اللاجئين، اذ امتنع البابا يوحنا بولس الثاني عن الادلاء بتصريحات واضحة الملامح بشأنهم، واكتفى بالاعلان عن «تضامنه» معهم من دون تقديم مقترحات ناجعة لحل المعضلة ولو على المستوى الانساني. كما تفادى التطرق الى مسألة الدولة الفلسطينية الكاملة السيادة، فلم يذكر مرة واحدة كلمة «دولة» ولم يتعد الخطوط الحمراء التي كانت اسرائيل قد رسمتها تمهيدا للزيارة البابوية. وكل ذلك، على رغم اعتقاد المسؤولين الفلسطينيين بأن قدوم البابا جاء لمساندة مواقفهم الخاصة، فإن ما قاله يوحنا بولس الثاني، أو بالاحرى ما لم يقله، يمثل انتصاراً آخر لاسرائيل في المضمار السياسي والديبلوماسي، وبرهانا جديداً على ان سياسة الحياد التي يتبعها الفاتيكاني هي اقرار ضمني بالاخفاق، وعدم الجرأة على القيام بالمهمة الاساسية لمؤسسة كالكنيسة، تقول انها تسعى الى تجاوز الحواجز الدينية والعقائدية ومناصرة الضعفاء، ولا يعرف المرء ماذا ستكسب المنطقة من جراء الزيارة البابوية المقبلة الى سورية اذا اصر اولو الأمور الروحيون والدنيويون على عدم تسمية الأشياء بأسمائها.

* مستعرب اكاديمي إسباني وعضو في هيئة تحرير مجلة «ناسيون آرابي» الإسبانية.