تحرير المواطن ضروري لتحرير الوطن

TT

عاد التساؤل حول أولوية تحرير المواطن أم تحرير الوطن الى الواجهة، أثناء الحوار الذي تشهده الساحة السورية هذه الأيام، بين دعاة إحياء المجتمع المدني وممثلي حزب البعث العربي الاشتراكي، وهو الحوار الذي نشط في أعقاب تولي الدكتور بشار الأسد مقاليد السلطة في البلاد، مع ما استصحبه ذلك من انتعاش في تطلعات التغيير وآماله.

إذ رغم الملابسات التي أحاطت بخلافة الدكتور بشار لوالده الراحل، فان الرئيس الجديد بعث فور توليه السلطة باشارات إيجابية الى قطاعات المجتمع السوري، شجعت كثيرين على تجاوز تلك الملابسات، ورفع أصواتهم مطالبين بتوسيع نطاق الدعوة الى الاصلاح، بحيث تتجاوز المجال الاقتصادي الذي أولاه الرئيس بشار عنايته الى الميدان الاجتماعي، المتمثل في تعزيز مشاركة المجتمع واقامة دولة القانون، باعتبار ان مثل هذه الاصلاحات الأخرى من شأنها توفير شروط أفضل لتحقيق النهوض المنشود للمجتمع على كافة الأصعدة.

هذا المنطوق أثبتته تجارب عدة في العالم العربي بوجه أخص، ذلك ان محاولات الاصلاح الاقتصادي لم تبلغ اعداد منها في ظل غيبة دولة القانون وتراجع الحريات العامة، من ثم فلم تنجح خصخصة الاقتصاد مع استمرار تأميم المجتمع، وفي المقدمة منه السياسة والاعلام، إذ حينما أصرت بعض الأنظمة على تغييب المشاركة الشعبية وتقليص سلطة القانون، فان ذلك أدى الى انعدام الرقابة وتغليب مصالح مراكز القوى على سيادة القانون، الأمر الذي أشاع الفساد وأدى الى اهدار الموارد وتخريب الاقتصاد وشل حركته.

في محاولة رد الاعتبار للمجتمع المدني في سوريا أصدر نفر من المثقفين ما عرف بـ«بيان الألف» الذي اعتبر وثيقة أساسية حددت مطالب وتطلعات تلك الشريحة من النخبة، التي تمثلت في انهاء حالة الطوارئ واطلاق المعتقلين السياسيين والسماح بحرية العمل السياسي وحرية التعبير وانشاء الصحف الخاصة، والسماح بتكوين أحزاب سياسية، واقصاء دور الأجهزة الأمنية عن المؤسسات المدنية.

كما رأيت فالمطالب كلها تركزت حول الحريات العامة، الأمر الذي يبدو انه فاجأ أطرافاً عدة في سوريا، خصوصاً تلك التي ارتبطت بالأوضاع السابقة، وهي تضم عناصر من التي توصف في بعض الكتابات بالحرس القديم، هؤلاء مارسوا في ما بدا ضغوطاً عدة أدت الى وقف تحركات المثقفين من دعاة المجتمع المدني وتعطيل اجتماعاتهم وندواتهم لبعض الوقت، ليس ذلك فحسب، وإنما تعرض المثقفون لهجوم شديد، بلغ ذروته في ما صرح به العماد مصطفى طلاس وزير الدفاع السوري المخضرم لقناة أبوظبي الفضائية، واتهم فيه العناصر التي وقعت على «بيان الألف» بالعمالة للمخابرات المركزية الاميركية، وبأنهم قبضوا أموالاً من واشنطن لقاء التوقيع على ذلك البيان.

في معرض نقده لبيان الألف قال العماد طلاس انه خلا من أية اشارة الى الصراع العربي ـ الاسرائىلي، واعتبر ان ذلك يكشف عن هوية موقعيه. وأضاف في هذا الصدد ان الرئيس الراحل حافظ الأسد كان يركز جهده في موضوع الصراع مع اسرائيل، تاركاً الأمور والسياسات الداخلية للحكومات المتعاقبة.

تساءل العماد طلاس بعد ذلك قائلا: كيف يكتب أي شخص، سواء كان مثقفاً أو لا يعرف سوى ألف باء من الحروف، بياناً الى سورية، دون أن يشير الى الصراع مع العدو الاسرائيلي، إلا اذا كان يعمل لمصلحة ذلك العدو؟

بيان الألف لم يكن برنامجاً للعمل الوطني ولم يكن مشروعاً سياسياً، ولكنه مجرد دعوة الى القيادة السورية الجديدة لكي تسرع من خطى الانفراج السياسي، التي بدأتها باطلاق سراح اعداد من المسجونين السياسيين، لكن «سقف» البيان كان أعلى مما كان مقدراً ومحتملاً، فأحدث ردود فعله التي سبقت الاشارة إليها. خارج تلك الدائرة فان تصريحات العماد طلاس أثارت ردود أفعال أخرى في محيط المثقفين السوريين، الذين اعتبروا ان اطلاق الحريات هو خطوة ضرورية لإنجاز هدف التحرير، باعتبار ان الانسان المنكسر والمقهور لا يستطيع أن يسترد أرضه المحتلة، وتحريره من القهر مقدمة لازمة لتحرير أرضه من الاغتصاب، من ثم فتحرير المواطن هو الخطوة الأولى في رحلة تحرير الوطن.

ذهب بعضهم الى القول بأنه لم يعد مقبولا أن يستمر ترحيل قضايا الحريات، تذرعاً بمسألة الصراع العربي ـ الاسرائيلي كما فعلت أنظمة عربية عدة، وان الموقف سيكون أفضل لا ريب لو بذلت جهود لتحقيق السلام الاجتماعي والاستقرار السياسي في الداخل، وتم ذلك بالتوازي مع جهود الاحتشاد والاعداد التي يتطلبها الصراع العربي ـ الاسرائيلي.

حين اعد مصدرو الوثيقة الأساسية أو بيان الالف مشروعهم الفكري وتصورهم لإطار السلام الاجتماعي والاصلاح الاقتصادي، فانهم أعلنوا في وقت لاحق عما أسموه «نحو عقد اجتماعي وطني في سورية ـ توافقات وطنية عامة».

الذين قرأوا نص البيان لاحظوا انه بدأ بالتركيز على أهمية «اعتبار المواطنين ذوات حرة، الاساس في وجودهم وفي التعامل معهم هو ضمان حريتهم وحقوقهم دستورياً وقانونياً وعملياً، وتوفير كل ما هو ضروري لتمكينهم من المشاركة الإيجابية في الشأن العام». أكد البيان أهمية الوحدة الوطنية، وتجاوز المذهبية والطائفية، ثم أعلن ان تحقيق الديمقراطية وبناء دولة القانون هو المدخل الضروري والسلاح الأمضى لكسب المعركة المفروضة ضد العدو الصهيوني وقوى الهيمنة الدولية، ورفض البيان الوصاية على الشعب، ومصادرة حقه في اختيار النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي يريده، كما دعا الى اعتماد الحوار والتوافق سبيلا لحل مشكلات الوطن، والى نبذ العنف بجميع صوره، ونبذ القمع والإكراه وسيلة لتنظيم حياة المواطنين.

فصل البيان في متطلبات الاصلاح الاقتصادي، الذي خصه بخمسة بنود، لكن قارئه يلمح في ثناياه الالحاح المستمر على مسألة الديمقراطية، التي اعتبرت تارة مدخلاً ضرورياً لكسب المعركة ضد العدو، وفي موضع آخر اعتبرت شرطاً لاقامة نظام عربي قادر على تحرير الأرض، مع الاشارة الى ان الوطنية الحقة لا تكون إلا بربطها بالقومية وربطهما معاً بالديمقراطية، وفي موضع ثالث جرت الاشارة الى ان المشروع الوحدوي لا ينفصل عن المشروع الديمقراطي «الذي هو لحمته وسداه».

البيان الأخير بدا وكأنه برنامج لحزب سياسي، وان حمل اسم «لجان احياء المجتمع المدني»، وقد اتسم برصانة ملحوظة وبدرجة عالية من هدوء النبرة، في الدعوة الى التغيير بالطرق السلمية ومن خلال الحوار المستمر.

يستنتج قارئه ان معديه يمثلون الجناح الليبرالي في التيار القومي، ويلاحظ بوضوح غياب أي توجيه آيديولوجي فيه، وخلوه من أية اشارة الى الهوية الاسلامية للقطر السوري، مع التركيز على محاور الوطنية والقومية والديمقراطية، ومع ذلك فإن تلك المحاور تظل محل اتفاق بين مختلف القوى السياسية والتيارات الفكرية، بما فيها الاسلامية، ليس في سوريا وحدها، وانما في أغلب ان لم يكن كل الاقطار العربية، الأمر الذي يوسع من دائرة التضامن مع المشروع والحفاوة به قطريا وعربيا.

ورغم ان البيان يعلن ضمنا ميلاد مشروع لجان «احياء المجتمع المدني» الا ان ذلك يمثل تحديا سلميا من جانب معديه لضغوط قوى الحرس القديم، التي ما زالت متوجسة من تداعيات التحول الديمقراطي، ومتشبثة بضرورة حصر أي نشاط سياسي في نطاق «الجبهة الوطنية التقدمية» التي تضم خمسة احزاب هشة بالاضافة الى حزب البعث الحاكم.

بكلام آخر فإن البيان يعد خطوة على طريق النضال الديمقراطي الذي تخوضه القوى الداعية الى رد الاعتبار للفرد والمجتمع، ومن ثم احياء المجتمع المدني، وهو النضال المستمر في اقطار عربية عدة ، لكنه لم يبلغ مراده بعد، لطوله، وربما لارتفاع كلفته.

ثم تصريحات سورية مشجعة نسبيا، دعت الى التدرج في القبول بالتعددية السياسية، وهي دعوة مفهومة ومقبولة، خصوصا في اطار الخرائط السورية الدقيقة والمعقدة. غير ان أكثر ما نخشاه ان يوظف البعض فكرة التدرج لاجهاض العمل الديمقراطي أو اضعافه، كما في اقطار عربية أخرى، نجحت في ارساء صيغة التعددية، لكنها حولت الاحزاب السياسية الى هياكل معطلة الوظيفة، الأمر الذي فصل بين التعددية والمشاركة، وفرغ الديمقراطية من مضمونها الليبرالي.

عند البعض تبدو هذه الصيغة حلا مريحا يوفر لكل طرف ما يريده، فالذين يطالبون بالاحزاب سيجدونها متاحة أمامهم، والاطراف المتمسكة باحتكار السلطة ستظل تمارس احتكارها باطمئنان، بحيث يقول الآخرون ما يريدون من خلال منابرهم الحزبية، بينما تعد السلطة ما تريد دون مشاركة أو رقابة من أحد.

ثمة تجارب عربية ربما أوحت بنجاح هذه «الوصفة» لكن ازعم انه يظل نجاحا نسبيا ومؤقتا، لأن تلك الديمقراطية المدجنة أو المعدلة لن تنطلي على الناس طول الوقت. نعم سيفرحون بما حصلوه من حق في الصياح والضجيج، لكنهم سيدركون عاجلا أم آجلا انه صياح في البرية، قليل الصدى وعديم المردود. وفي تلك اللحظة التي تذهب فيها السكرة وتظل الفكرة، فإن التداعيات السلبية قد تبدأ في الظـهور، اعني حين يكتشف الناس ان التعبير الديمقراطي الذي تطلعوا اليه كان سرابا ووهما، وان فرصة اجراء ذلك التغيير بالوسائل السلمية ليست قائمة، الأمر الذي يخشى ان يؤدي الى اليأس والاحباط، ومن ثم الى اللجوء الى العنف لإحداث ذلك التغيير.

ان استمرار الضغط والكبت مؤد بالضرورة الى الانفجار، والعقلاء الراشدون هم الذين يقيمون للتيار الداعي الى الحرية والديمقراطية فرصة الممارسة وتوظيف طاقات القوى السياسية لصالح مشروع النهضة والتحرير، من خلال القنوات المشروعة، قبل أن يفيض الكيل بهؤلاء، فيلجأون للقنوات غير المشروعة، وربما الى الاساليب غير المشروعة.

ان تيسير الحلال هو أفضل طريق لضمان عدم الانزلاق في طريق الحرام، وهي معادلة تنطبق على السياسة ايضا، لأن فتح أبواب الاعتدال وتيسير الحلول السلمية هو السبيل الانجح للحيولة دون الجنوح الى التطرف واللجوء الى العنف. وهو درس حفظه كثيرون، لكن الذين استوعبوه وتعلموا منه كانوا قلة دائما، نرجو ان تكون القيادة السورية الجديدة منها.