جراح القلوب وجراح الدول

TT

بدأت تسرد حكايتها فسرت في جسدي قشعريرة وبرد وخيم على المكان صمت كصمت القبور، اذ قالت انها تدخل غرفة نوم ابنها اربع مرات في العام كي تضع في دولاب ملابسه الهندام المناسب لحرارة الجو، ولكن ابنها هذا غائب منذ سنين، اذ اسرته القوات العراقية عندما احتلت الكويت في اغسطس (آب) عام 1990، لا تريد السيدة الكثير من العراق هي فقط تبحث عن اجابة مريحة هل ابنها حي ام ميت؟، فان كان حيا فهي في الانتظار، اما اذا كان مات فلا يبقى لها إلا ان تغلق ابواب قلبها وتهيل على عواطفها التراب وتغلق هذا الجرح المفتوح.

وما اصعب جروح الامهات، وخصوصا تلكم التي وهن العظم منها وترهل وجهها بفعل الحزن والزمن معا.

سمعت هذا الصوت في زيارتي الاخيرة للكويت، وما اتعس حالة الانسان عندما يسمع شكوى وأنينا ولا يستطيع ان يقدم مساعدة، كل ما وعدت نفسي به هو التفكير وكل ما وعدت به السيدة هو الكتابة، وهل تشفي الكتابة احزان قلب مكلوم يتعامل مع حالة الاسر بالصورة المخيفة التي تتعامل بها هذه السيدة.

ان حديث الحكومات ولغتها مهما خلصت النيات لا تلبي لهفة القلوب، وخصوصا قلوب الامهات. قد ينظر الى الاسير في اطار «ملف الاسرى» في لغة الجامعة العربية، او قضية «مفقودي الحرب» في لغة الامم المتحدة، ولكن شتان بين لغة الأم ولغة الأمم، متحدة او غير ذلك.

ها انا اوفي بوعدي تجاه السيدة بكتابة سطور عن حالتها، ولكنني لم اف بوعدي لنفسي بالتأمل والتفكير اللهم الا بشكل متقطع.

من آن لآخر كانت تغزو هذه القصة خلوتي سواء في الطائرة، في منزلنا الكائن في اقصى جنوب مصر حيث ذهبت ولمدة اربع وعشرين ساعة لزيارة امي المريضة، التي رغم مرضها استقبلتني ببسمة، وحاولت لحظتها ان اقارن هذه البسمة بذاك الحزن، واقارن لحظة اللقاء بلحظات الفراق، كان من الممكن لي ان اقول ان قصة اسير الصيف والشتاء كما سميته في رأسي بناء على عملية تبديل الملابس والطقوس التي تقوم بها امه، من الممكن ان اقول ان هذه القصة افسدت زيارتي لأمي كما انها تفسد حياتي وتؤرقها حتى الآن رغم مضي اسبوعين على سماعها.

سمعت ذات مرة ان هناك حديثا او قولا مأثورا، وليس لدي لا الوقت ولا العلم الديني كي اجزم الآن، ولكنه يقول في معناه «لا يحل لمسلم اكثر من قوت يومه وفي المسلمين اسير» ولكن هذا الحديث جاء في اطار اسر غير المسلمين للمسلمين، فهل هناك احاديث في اسر المسلمين للمسلمين يا ترى؟ ام ان هذا السلوك كان غير وارد من اصله؟ وهل في ثقافة العرب التقليدية لا الدينية ما يتعامل مع هذه الحالة.. اعرف ان تاريخ البداوة العربية كان في فترة من فتراته يقبل الغزو، ان تغزو قبيلة ديار قبيلة اخرى، ولكن هل كانت هناك عملية اسر؟ كان الغزو مرهونا بشظف العيش والفقر وكان هدفه الاساسي سرقة المتاع.. ولكن في اعتقادي ان النقلة الحضارية التي حدثت في عالمنا نقلتنا من حالة القبائل المتناحرة الى حالة الدول التي يتعامل بعضها البعض في اطار القانون الدولي وعرف العلاقات الدولية! قد تبدو قضية الاسرى الكويتيين في العراق قضية صغيرة بالنسبة لعدد الاسرى او حجم احزان المنطقة الكبرى التي تبدأ من حرب اسرائيل على شعب اعزل في فلسطين، او حتى حصار الشعب العراقي نفسه، ولكن عدم حل هذه القضية يجعلها تبدو كأنها سلوك مقبول في تعامل الدول العربية وبعضها البعض، هل تحتجز ليبيا العمال المصريين لديها لو حدث خلاف بين حكومة طرابلس والقاهرة؟ هل يحتجز المصريون إخوة لهم من السودان يقيمون بينهم في فترة محنتهم الوطنية؟ بالطبع لا، ويجب ألا يكون هناك قبول بان يأسر العربي اخاه مهما كانت القضايا، اننا نتشدق يوميا ملء السمع والبصر، ونقول للعالم اننا امة اسهمت في بناء الحضارة الانسانية، فهل الاحتفاظ بالاسرى على حساب قلوب دامية لامهات لا ذنب لهن هو اسهامنا الحضاري للانسانية! دائما نقول ان خلافات الحكومات لا تعكس بالضرورة مشاعر الشعوب، فما ذنب سيدة تعيش ما تبقى من حياتها وبقلبها جرح غائر مفتوح وننسى هذا الجرح في اطار حديثنا عن الجيوبوليتك! أما آن الأوان ان ينتقل عالمنا العربي الى سياسة اكثر انسانية تضع في الحسبان رحلة الشتاء والصيف لسيدة مكلومة لا تعرف شيئا عن النفط او عن سؤال الحدود بين الدول!