أوراق من جولة أوروبية

TT

شاركت في الأسبوع الماضي في مدينة «خافيا» الساحلية بإسبانيا، بناء على دعوة من الصديقة العزيزة «بنبيتا فيريرو والدفر»، وزيرة خارجية النمسا السابقة، والمفوضة الأوروبية حاليا للشؤون الخارجية، في ندوة حول الحوار الأوروبي المتوسطي، تستهدف الإسهام في بناء الجسور بين المنطقتين على ضوء سياسة الحوار التي وضعها الاتحاد الأوروبي كأساس للعلاقات بين جنوب البحر المتوسط وشماله.

وشارك في الندوة، وزير خارجية المغرب، ووزير خارجية اسبانيا، والأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية، وأمين عام وزارة الخارجية الأوروبية، والمفوض السابق لحقوق الإنسان بالمجلس الأوروبي، والمدير التنفيذي لمؤسسة «أنا ليند» لحوار الحضارات ومقرها الإسكندرية، بالإضافة إلى عدد من ممثلي منظمات الفكر الغربية، ورجال الأعمال، وممثلي الحكومة المحلية لإقليم «فالنسيا».

وكان الغريب أن دعوة وجهت أيضا لوزيرة الخارجية الأميركية، كونداليزا رايس، للحضور، فاعتذرت وأوفدت بدلا منها نائبة مساعد الوزيرة لشؤون الدبلوماسية العلنية (وهو الاسم الكودي للدعاية التي تحاول تحسين صورة الولايات المتحدة في العالم). كما بدا غريبا للوهلة الأولى أن يشارك ممثل لمؤسسة «بروكنجز» في واشنطن، وان كانت هذه الدهشة قد خفت بعض الشيء بالنسبة لذلك، إذ كان ممثلها شابا نابها من أصل هندي كان يعمل في البنك الدولي مع رئيسه السابق ولفنسون، وانتقل معه الآن إلى رئاسة قسم موله في بروكنجز. ومعروف أن ولفنسون كانت له في البنك الدولي، ثم في توليه موضوع التنمية الفلسطينية، مواقف تختلف ايجابيا عن مواقف الكثير من الغرب ممن تعميهم أطماعهم أو أوهامهم عن الحقائق، حتى إذا كانت مما يستحيل مع حد أدنى من حسن النوايا تجاهله.

وردا على سؤال عن سبب دعوة المسؤولة الأميركية إلى ندوة المفروض أنها تدخل في إطار الصلات الأوروبية المتوسطية، ذكرت السيدة فيريرو انها ربما تسرعت، ولكنها رأت أنه قد يكون من المفيد أن يستمع الأميركيون إلى آراء وأفكار تساعدهم على أن يتفهموا أكثر مواقف الآخرين. وهي فكرة لا يمكن في الواقع رفضها رفضا قاطعا لأن الأميركيين في حاجة فعلا إلى أن يستمعوا إلى أصوات غير الأصوات المتعصبة الكريهة التي تموج بها الساحة الأميركية وتغطي على أصوات داخلة وخارجة متعقلة ترغب في ان تقيم الولايات المتحدة مع العالم علاقات سوية متوازنة بدلا من علاقات تقوم على تصور أن احتكار القوة يعني احتكار الحقيقة والاستسلام إلى أوهام كالوهم الذي عبر عنه زوليك نائب وزير الخارجية الأميركية حين قال إن العرب يحسدون العراقيين على ما تحقق لهم، فرد عليه عمرو موسى ـ أمين عام الجامعة العربية ـ بأن أحدا لا يحسد العراقيين على ما يواجهونه من أوضاع تثير الحزن والأسى.

وعلى أية حال، فقد كان حضور ممثلة كونداليزا رايس، وهي شابة درست وعاشت لفترة طويلة في لندن، احتكت فيها بعالم آخر غير الذي يحصر بعض الأميركيين أنفسهم فيه، فبدت أكثر استعدادا للاستماع، كان حضورها فرصة لنقاشات فرعية بين المشاركين المنتمين إلى العالم العربي وبينها، اعتقد أنها كانت مفيدة ربما في فتح نافذة أمامها على العالم، وهي في بداية مهمتها الصعبة.

وقد أوضحت لها الكثير مما بدت غير ملمة به إلماما كافيا حول القضية الفلسطينية، وحول العراق، وحول عمليات الإصلاح في مصر بالذات التي قد تكون بطيئة أحيانا، وقد تشهد كبوات في بعض الأحيان، ولكنها كالقطار يتجه بغير شك إلى محطة الوصول حتى إذا تعرجت الخطوط أحيانا. وقد استلفت نظري أثناء الحديث إيحاء منها بارتباط بين تقديم المعونة والحق في إبداء ما أسمته النصح والنقد فيما يتعلق بالسياسات الداخلية، وكانت هذه فرصة لكي أوضح لها أن التدخل الأميركي بدعوى تأييد الإصلاح يسيء إلى حركة الإصلاح لأنه يجعلها تبدو رهينة لضغوط أميركية، مع أنها في الواقع استجابة لرغبة شعبية التقت مع القيادة حول الخطوط العريضة لعقد اجتماعي جديد، حتى وان اختلفت التفضيلات والاجتهادات حول مضمون ذلك العقد ووتيرة التحرك نحوه.

وأوضحت لها أن المعونة الاقتصادية حققت فوائد للطرفين، كما أن مآلها في تقديرنا إلى الزوال ليحل محلها تعاون اقتصادي قائم على التجارة والاستثمار، وانها على أية حال، يجب ألا تستغل لمحاولة الضغط الذي نرفضه تماما. وتناول الحديث كل نقاط الاحتكاك المصرية الأميركية التي يجب العمل على تجاوزها على أساس الرغبة في إقامة علاقات صحية قائمة على المساواة والمصالح المشتركة مما يترك مجالا واسعا للاتفاق والاختلاف.

ولا أدعي انني وغيري من المتحدثين العرب، قد أقنعناها، ولكننا بالقطع قد أثرنا لديها تساؤلا حول معنى الدبلوماسية العامة التي يجب أن تقوم على فهم الآخر ومتطلباته، وما يقلقه أو يغضبه، قبل محاولته بيع بضاعة يراها المتلقي فاسدة يتسمم بها، كما تسمم جزء من المجتمع الأميركي ذاته.

ويبقى أن حضور ممثل أميركي في هذا الحوار بدا شيئا غريبا قد يثير تساؤلات، خاصة وأن الولايات المتحدة حاولت إقحام نفسها في مجال لم يخطط من رسموه أن يكون لها فيه دور.

وقد تمخض الاجتماع عن التفكير في إقامة مؤسسة يكون مقرها في مدينة «خافيا»، تضاف إلى الجسور التي يجري بناؤها باسم حوار الحضارات، أو حوار الأديان، أو علاقات حسن الجوار، ولكن تم الاتفاق على أن تكون تلك المؤسسة الجديدة موجهة بصفة خاصة إلى الشباب باعتبارهم المستقبل الذي يمكن بناؤه على أساس تبادل المعرفة والفهم المتبادل والابتعاد عن التطرف الذي ينبع غالبا من الجهل وتبني الصورة الأحادية والرمادية للعالم، وقد تركزت المقترحات في نقاط محددة.

1 ـ التركيز على الشباب المتميزين وقادة المستقبل من مختلف الأوساط الاجتماعية ومتنوعي الخبرات والتخصصات، وعقد لقاءات بينهم حول موضوعات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لتعميق المعرفة المتبادلة والفهم والتقدير وتنظيم معسكرات صيفية.

2 ـ تشجيع المنح الدراسية وتبادل الطلبة والباحثين.

3 ـ تشجيع تبادل الآراء حول الحكم الصالح وسيادة القانون.

4 ـ تشجيع الاتصالات بين أصحاب الأعمال والعمال، وخلق فرص عمل عن طريق دورات تدريبية مع التركيز على المشروعات الصغيرة والمتوسطة.

5 ـ تشجيع الاتصالات عن طريق وسائل الإعلام.

6 ـ الاستفادة من المؤسسات والمبادرات القائمة في هذا الشأن، مثل مؤسسة أنا ليند، ومهرجان أصيلة الثقافي بالمغرب الذي يرأسه محمد بن عيسى، عمدة المدينة المنتخب، ووزير خارجية المغرب، ومؤسسة «بروكنجز»، واللجنة الدولية للأزمات التي يرأسها جاريت ايفنز، وزير خارجية استراليا السابق، والتي كانت ممثلة في الاجتماع.

7 ـ تنظيم ورش عمل للشباب حول موضوعات الحوار، والموضوعات المتنوعة، ومنها فرص العمل للشباب.

وتم الاتفاق على أن يتم تعميق دراسة النقاط سالفة الذكر ليمكن أن تشكل منظومة متكاملة في إطار مؤسسة صغيرة يكون مقرها في تلك المدينة الاسبانية الصغيرة والمضيافة، وقد تعهدت الحكومة المحلية بتقديم تسهيلات وبعض التمويل، بالإضافة إلى مصادر التمويل الأخرى من القطاع الخاص.

كما أعلنت حكومة إقليم فالنسيا عن تقديم 5 منح للشباب سيتم الإعلان فيما بعد عن شروطها وتفصيلاتها.

وقد اعتبر المشاركون في الاجتماع، هم مؤسسو ذلك الكيان الجديد على أن يتبادلوا الرأي حول التفصيلات في اتصالات تجرى بينهم إلى أن يمكن عقد الاجتماع التأسيسي بعد أن تنضج الأمور من النواحي الموضوعية والمالية والتنظيمية، وقد وجه وزير خارجية المغرب الدعوة لمن يستطيع من المشاركين حضور مهرجان أصيلة الثقافي في أغسطس باعتباره كيانا يمكن الاستفادة منه في وضع الأفكار التي أثبرت موضع التنفيذ.

وعلى هامش الندوة أيضا، دارت أحاديث حول الوضع في فلسطين، وقد شملت أن الأوروبيين عامة قلقون من تطورات الأوضاع، ويدركون خطورة تعريض الشعب الفلسطيني لعمليات التجويع والحرمان والحصار لأسباب يصعب فهمها، فإذا كان الغرض هو إسقاط حكومة حماس التي انتخبها الشعب انتخابا حرا وأصبحت بالتالي، مهما كان رأينا فيها، تمثله، فإن تحقيق تلك النتيجة سيترتب عليه مزيد من العنف والاضطراب، وإذا كان هذا ما ترضى عنه إسرائيل لأنه يعفيها من التفاوض ويتيح لها الاستمرار في سياسة الخطوات من جانب واحد التي لا تستهدف إلا مزيدا من الاستيلاء على الأرض الفلسطينية وحرمان الشعب الفلسطيني من مزيد من حقوقه، فإنني لا أفهم كيف يمكن للولايات المتحدة التي تعلن تمسكها بمبادئ دستورها وإعلاناتها المتكررة من ميثاق الأطلنطي (لا أقصد الحلف الشهير، بل الميثاق الذي أصدره روزفلت أثناء الحرب العالمية الثانية حول حق الشعوب) أن تجاري مثل هذا الاتجاه، وأن تشجع عليه الآخرين، وأنا أكتب هذا بينما يتوجه أولمرت إلى واشنطن وهو يحمل معه كل أدوات الضغط المعنوي وغيره ليدفع واشنطن إلى هاوية مأزق جديدة، وكأن مأزق العراق وأفغانستان لا يكفيان، وفي مواجهة ذلك، فإن حال الفلسطينيين وغواية الحرب الأهلية يكادان يلقيان بهم في اتون أخطار قاتلة، ولن تستفيد سوى إسرائيل من هذا التطاحن داخل السلطة التي يجب ألا ينسى أحد انها تشمل الرئاسة والحكومة اللتين يجب أن تدركا أنه في الظروف الحالية لا مفر من إيجادهما أرضا مشتركة هي أرض أولا لفلسطين ومستقبلها، وليس لأهداف تكتيكية صغيرة، ويجب على كل الأطراف أن تدرك أن النضال الحقيقي هو الذي يتأقلم مع الظروف، ففتح يجب أن تقبل بهزيمتها في الانتخابات، وحماس يجب أن تدرك أنها أصبحت حكومة عليها مسؤوليات تجاه شعبها وتجاه البحث عن أفضل الوسائل لتحقيق أهداف النضال الذي سقط دونه آلاف الشهداء الذين فكروا في الوطن قبل أن يفكروا في هويتهم السياسية، وفي هذا الصدد، فإنه يدهشني من يروجون لحكاية أن أبو مازن هو المسؤول عن المفاوضات، وبالتالي فإنه يمكن أن يدخل في مفاوضات بعيدا عن الحكومة، فهل يتصور أحد أن إسرائيل التي لم تعط أبو مازن شيئا حين كان يمسك بزمام الحكم بجناحيه، سوف تعطيه وهو يسير على قدم واحدة؟ ان المطلوب هو أن يوحد أبو مازن وهنية موقفيهما في اتجاه ما بدأت حماس إظهاره من مرونة في إطار الثوابت، وأن تتوقف المناورات الصغيرة من الجانبين التي لا تليق بشعب أظهر من الشجاعة والصمود والحكمة ما اضطر أعداؤه في مرحلة ما إلى الإقرار بعدم إمكان استمرار سيطرتهم عليه، وعلى الدول العربية أن تشجع مثل هذا الاتجاه، وكذلك أوروبا التي نراها تتذبذب تذبذبا يتنافى مع المبادئ والواقعية رضوخا أو إرضاء لصديق ضل الطريق في حين أن واجبها أن تصدقه القول لا أن تصدقه، كما يقول المثل عن الصديق الحقيقي.