طربوش العوز

TT

لجأ الأرمن أوائل القرن الماضي إلى سورية وفلسطين ولبنان بعشرات الآلاف. أقيمت لهم مخيمات عاجلة فقطنوها. لكنهم عاشوا داخل عالمهم المغلق: لهم مدارسهم. ولهم احزابهم. ولهم حاراتهم وفقرهم ولغتهم، وشيء من اللغة العربية التي يؤنثون بها المذكّر ويذكرّون المؤنث: هيدي رجال حلوي كتير.

كانت هناك عدة «خصائص» لهذا الشعب الذي عاش على أطراف لبنان وأطراف السياسة وأطراف الحياة. وكانت ابرز هذه الخصائص انه شعب فقير، لكنه لا يستعطي. شبان في أسمال بالية لكنهم لا يمدون أيديهم طلباً لشيء. ولا يقرعون باباً. وفي هذا المجتمع المغلق (او المغلقة) كان الميسور يهتم بالمعوز، والعامل يساعد العاطل. وكان اذا ضبط أرمني على عتبة او باب، تتولى جماعته محاسبته ومعاقبته. فالاستعطاء هو اسوأ العيوب.

التقيت امس مؤرخاً أرمنياً في اواسط العمر، اذا كان للاعمار من وسط. وأدليت أمامه بكل ما أعرف عن أدباء الأرمن. واخبرته، مكرراً ذلك للمرة المائة مثل الثقلاء، انني أول من ترجم الى العربية أشهر كاتب أرمني في اميركا: وليم سارويان. ووجدت انني اعرف عن سارويان نثار ما يعرف صاحبنا. ثم حدثته عن الملاحظة العامة عن انوف النفس الارمنية عن الوقوف في الاعتاب. وبعدها انتقلنا الى استذكار اعمال احد أهم رسامي لبنان، بول غيراغوسيان. وتحدثنا عن ان غيراغوسيان عاش فقيراً ومات فقيراً في حين ان لوحاته الآن تساوي المبالغ. ولمحت في عين الرجل دمعة واضحة. وقال لي ان غيراغوسيان اراد ان تكتب هذه القصة فقط بعد موته بسنوات. فقد وصل طفلاً مع والده الى القدس. ولم يكن هناك رغيف. وكان الأب يقتعد الرصيف والابن الطفل يمد الطربوش الى المارة طلباً للمساعدة!

قلت للمؤرخ: لماذا رفض غيراغوسيان قول هذه الواقعة، فهي تكبّر من حجمه وتعظم من سيرته، وليس العكس.

وأجاب المؤرخ: هذا صحيح. كان غيراغوسيان يعرف ان هذا الفصل من طفولته سوف يعظّم في سيرته الشخصية. لكنه ايضاً كان يخشى على شعبه. كان يخاف ان يقال ان ارمنياً مدّ يد الاستعطاء. او طربوش العوز ولو طفلاً جائعاً.