لماذا دعاة الإسلام المعتدل مطالبون بإثبات مصداقيتهم أكثر من غيرهم؟!

TT

ليس من قبيل المضنون به على غير أهله، ما آلت إليه قيمة الحوار في الأنساق الفكرية على اختلاف أنماطها من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، فذلك البون شاسع بين النظرية والتطبيق، وتلك المسافات الممتدة والتي تقاس بدورات تاريخية معرفية طويلة الأمد مرت بها بعض الأفكار كان من أسوأ نتائجها غياب قيمة (الحوار) الذي بات مفقوداً عزيز المطلب، لا حضور له لا على مستوى الترويج للخطاب نفسه وليس على مستوى آليات تفعيله في أرض الواقع مما يعني ضياع قيمة (الآخر) بما يمثله من حضور فاعل وقوي بفضل رياح العولمة التي مست كل ما مرت به بتأثيرها القوي والعميق.

هذه الحالة المأزومة كثر الحديث في الآونة الأخيرة عنها بشكل جاد ومتزن في واقعنا المحلي، بعد ممارسات خطاب التطرف الذي ينتعش على أنقاض خطاب العنف المسلح فصحيح أن القاعدة تتضاءل بفعل الحصار الأمني والرفض الشعبي، إلا أن مساحة التشدد الديني في شكله العقائدي والطائفي والفقهي والسياسي أخذت تمتد معلنة عن محاولة إثبات الوجود عبر قربان التبرؤ الخجول من الإرهاب وإلقاء اللوم على الواقع السياسي العالمي أكثر من الفكر المتطرف.

يمكن القول إن التناول النقدي لغياب قيمة (الحوار) اتخذ مسارات لا تشخص الظاهرة فضلاً عن أن تعالجها بطريقة صحيحة تستلهم الحياد المعرفي والتحليل المبني على قراءات متعمقة من شأن مبضعها ملامسة بنية الخطاب ذاته وأشكاله التي يستمد منها وجوده ودوره في التعامل مع الأفكار والأحداث، بعبارة أخرى استبعاد نقاط الاتفاق التي يتكرر الحديث بشكل ممل، وعلى نحو موارب يشي بالهروب من جذر الإشكالية الحقيقي، عبر الدوران في نفس المكان، فالحديث عن أهمية الحوار ومنزلته في الإسلام وتتبع النصوص الواردة فيه والاستفاضة في ذكر المواقف الرائعة التي تمثلها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم أجمعين مع المخالف أمرا كما يقول الأصوليون، ليس موضع النزاع ولا يساهم في حل الظاهرة بشكل جذري ونهائي، بل لا بد من أن يستتبع ذلك معالجة منهجية تحلل خطابات الأنظمة الفكرية والعقدية وتفكك بنيتها المعرفية وتقرأ الأصول التي بنيت عليها وتكتشف مناطق الضعف والقوة فيما يتصل بقيمة الحوار، ولا شك أن النتائج وقتئذ ستكون دقيقة مما يكفل حلولاً ناجعة، ومثل هذا يمكن أن يقال في الحديث عن قيم أخرى لا تقل أهمية كالعدل والحرية والمساواة والوطنية ووو... إلخ.

من جهة أخرى فإن هذه المعالجة أنفع من عقد مقارنات ليست ذات جدوى بين الخطاب الإسلامي وخطاب التيارات الأخرى وإثبات أنها تتشدق دوماً بالحوار وتنادي به، مع أنها تمارس بنفس الدرجة من الحماس، العنف والإقصاء والحدية في التعامل مع الآخر، وهو أمر على صوابه في بعض الأحايين، إلا أنه لا يقتضي بداهة الانعتاق من الأخذ بقيمة (الحوار) أو حتى مقابلة التلكؤ في التعامل مع التيارات الإسلامية المعتدلة بالارتداد إلى العنف كقيمة مضادة، تمثل آلية ردع تجاه أي محاولة للخروج من الأزمة التي نمر بها، فالخطاب الإسلامي وحده للأمانة التاريخية هو المطالب بإثبات استعداده للحوار والتعددية بشكل واضح وصادق فقط ليحاول محو سجل حافل بالانتهاكات والتاريخ الدموي العنفي تجاه «الآخر» القريب قبل البعيد.

إن المتابع للمشهد الثقافي بشكل عام والفكري منه خصوصاً، يلحظ حضورا بارزا للخطابات السجالية التي تشكلت بنيتها المعرفية على تأصيل كبير للعنف والإقصاء والنظرة الآحادية التي رسمت ملامح نتائجها على مستوى التنظير أو التطبيق، متجاهلة حقيقة بدهية تزداد تجذرا في الواقع يوما بعد يوم، وهي أن أي تيار فكري أو مذهب فقهي، لا يعدو أن يكون جزءاً من الأمة وليس الأمة كلها ولا الممثل لها أو المعبر عن ضميرها ووجدانها.

القضية الجوهرية التي تتجاهلها تلك الخطابات الآحادية، هي حين تصر في طروحاتها على تناول قضية الاجتهاد والاختلاف الفقهي في المسائل العلمية، على أنه خلاف سلبي ينبغي أن يزول من خلال قصر الناس وجبرهم على اتباع رأي واحد، وهو الرأي الذي وصل إليه اجتهادنا ونظرنا، ولا شك أن هذا قصور في الوعي بطبيعة تلك المسائل التي تتجاذبها أطراف النصوص ودلالاتها، وهو أمر قصده الشارع الحكيم توسيعاً على الأمة ورحمة بها.

إن السؤال الذي يولد من رحم الواقع المؤسف الذي نشهده في هذه الآونة، لا سيما عند تناول المسائل الفقهية ووجهات النظر الشرعية، حول كثير من القضايا التي لم تفرق المتقدمين من السلف والعلماء، ولم تخلق هذه الأجواء المشحونة بالتبديع والتكفير والسلبية في التعامل مع المخالف، هو ما سبب هذا الاختلاف الجوهري بيننا وبينهم؟

لا شك أن الإجابة عن هذا السؤال المشروع لكل متابع للساحة الفكرية، يتطلب من المعنيين بالبحث العلمي تتبعاً لمسيرة المدارس الفقهية ومراحلها ورصد التغيرات التي طرأت عليها خاصة ما بعد التدوين، إضافة إلى تفكيك الأدوات المنهجية التي تقوم عليها ومحاولة قراءتها قراءة نقدية، ولن يكون شيء من هذا كله دون الإحساس بالمشكلة وتشخيصها كخطوة أولى للتصحيح والمراجعة وهو أمر لا يصلح أن يأتي إلا من داخل الأسوار، أو ممن استطاع القفز عليها وتجاوزها.

[email protected]