الحوار الوطني الفلسطيني الذي لن يتوقف

TT

لا أستطيع أن أتصور أن الحوار الوطني الفلسطيني أنجز في يومين، هذا حوار بدأ ولن ينتهي، ومن الضروري أن لا ينتهي. سيتواصل الحوار بين القوى التي اجتمعت، وسيتواصل الحوار داخل كل طرف من الأطراف المجتمعة. وستشارك في الحوار إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية. الحوار سيستمر في مناقشة العلاقات الداخلية بدءا من الأمن وانتهاء بالسيطرة على السلطة من هذا الطرف أو ذاك، أو وصولا إلى حكومة وحدة وطنية. والحوار سيستمر في مناقشة تواصل المساعي الإسرائيلية لسلب المزيد من الأرض الفلسطينية، وفي تواصل المساعي الأميركية لجعل السلطة الفلسطينية أداة من أدواتها في تطلعها لبناء الشرق الأوسط الكبير، وأمور كثيرة ستجد في طريق الحوار وتطرح نفسها على جدول الأعمال.

حين بدأ الرئيس الراحل ياسر عرفات يفكر جديا عام 1988 في الاعتراف بالقرار 242 والذهاب إلى المفاوضات على قاعدة دولتين لشعبين، قاد حوارا داخليا استمر ستة أشهر. لم يبق مسؤول فلسطيني إلا وجاء إلى تونس، واجتمع مع عرفات، وناقشه عرفات بمشروعه، واستمع إلى كل ملاحظاته وانتقاداته، وقدم ردوده عليها. وحين صاغ عرفات مشروعه النهائي (وثيقة الاستقلال) وإعلان الدولة الفلسطينية، كان الكل يعرف تفاصيل التفاصيل حول كل نقطة. يعرف الايجابيات والمحاذير، يعرف الدوافع والأسباب. وبعد كل هذا الحوار الطويل والتاريخي والسياسي والقانوني والوطني، ترك لكل طرف حرية أن يوافق أو أن يعارض داخل مداولات المجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر. وتحول الحوار من حوار ثنائي داخل الغرف المغلقة إلى حوار وطني مفتوح، لا يستطيع أحد أن يصد أبوابه المشرعة.

الحوار الفلسطيني الذي دار في رام الله (25/5/2006) على مدى يومين، سيمتد ويتواصل، تماما كما حدث في حوار عام 1988. فالقضايا الكبرى لا تحسم في ساعات أو ايام، وحتى لو تم إقفال الحوار رسميا فإن الحوار سيتواصل في كل زمان وفي كل مكان، لأنه حوار وطني بالدرجة الأولى، حوار تاريخي وسياسي وقانوني ومصيري.

البعض أراد لهذا الحوار أن يكون حوارا أمنيا، يوقف المواجهات بين حركتي فتح وحماس، ويقطع الطريق على احتمالات حرب أهلية، وهذا أمر مهم وضروري، ولكنه بند واحد أولي.

والبعض أراد لهذا الحوار أن يكون حوارا اقتصاديا معيشيا، يبحث في كيفية مواجهة حرب التجويع التي تشنها الولايات المتحدة الأميركية ضد الشعب الفلسطيني، سواء كان ذلك بتنحي حركة حماس، أو بعودة حركة فتح إلى السلطة، أو بإنشاء حكومة وحدة وطنية، وهذا بند مهم وضروري، ولكنه بند واحد أولي.

والبعض أراد لهذا الحوار أن يوفر مدخلا للعودة إلى التفاوض مع إسرائيل، سواء بتراجع حركة حماس، أو بقبولها للشروط الإسرائيلية المستحيلة الموضوعة أمامها، أو بتكريس الجميع لمؤسسة الرئاسة كطرف أساسي مفاوض، وهذا بند مهم وضروري، ولكنه بند واحد أولي.

وتقف خلف هذه البنود الأولية، القضايا الكبيرة المطروحة، والتي لم تلق حظها من النقاش الفلسطيني حتى الآن، والتي سيتواصل الحوار حولها في الأسابيع والأشهر المقبلة.

أول القضايا التي سيتواصل حولها الحوار (اتفاق اوسلو)، فإحدى القضايا موضع الخلاف هي دعوة حركة حماس للاعتراف بالاتفاقات الموقعة، ويبدو هذا المطلب ايجابيا وقويا، ولكنه مطلب هش. وكثيرون ناقشوا في الحوار على أن اتفاق اوسلو اتفاق قائم، وعلى أنه اتفاق جلب للفلسطينيين ايجابيات عديدة، ومن الواجب الاعتراف به لمواصلة بناء الايجابيات. ولكن آخرين لا يرون أن هذه مسلمة بديهية، يرون بالعكس أن اتفاق اوسلو قد انتهى، وأنه لم يجلب ايجابيات. وأن ما يعيشه الفلسطينيون حاليا من احتلال، ومن اقتراح حلول مهينة، ومن تجويع دولي وإسرائيلي، هو اتفاق اوسلو الموضوع قيد التطبيق. كان يجوز «تحليل» اتفاق اوسلو عام 1993، ولكن اتفاق اوسلو طبق وأنجز، ولا مبرر للعودة إلى «التحليل» بصدده الآن. النتائج هي التحليل الوحيد المقبول، فلقد كانت الدعوة إلى «التحليل» و «السجال» حول اتفاق اوسلو عام 1993 مبنية على التصورات الذاتية الفلسطينية لمفهوم الاتفاق ومستقبله. كان الدكتور نبيل شعث، رجل التفاوض في تلك المرحلة، يقول ويعلن إن اتفاق اوسلو يعيد 90% من الأرض للفلسطينيين، أما الـ 10% الباقية فهي أراضي المستوطنات ومعسكرات جيش الاحتلال، والتي سيتم التفاوض عليها في مفاوضات الحل الدائم والنهائي، ولكن قراءة نبيل شعث للاتفاق لم تتحقق، ولم يحصل الفلسطينيون إلا على 42% من الأرض، جزء منها بسيطرة إدارية وأمنية كاملة (18%) وجزء آخر بسيطرة إدارية فقط (24%)، ذلك أن عمليات التحايل الإسرائيلية اخترعت نظرية تقسيم الأراضي إلى مناطق (ألف) و (ب) و (ج) التي قضت على القراءة المتفائلة لاتفاق اوسلو كما تصورها المفاوض نبيل شعث وزملاؤه.

تم تطبيق الانسحاب الإسرائيلي من الضفة الغربية (إعادة الانتشار)، بالسياسة التي سميت بـ«النبضات»، النبضتان الاولى والثانية تم تطبيقهما، أما «نبضة» الانسحاب الثالثة، فقد رفض ايهود باراك تنفيذها. قال: كيف سأساوم الفلسطينيين في مفاوضات الحل الدائم والنهائي إذا سلمتهم كل الأرض؟ يجب أن أحتفظ بالأرض من أجل المساومة. وكان يقول لعرفات: لماذا أنت منزعج من توسيع المستوطنات؟ فهي كلها ستعود لك ومعها مباني المستوطنات حين نتفق على الحل الدائم والنهائي. وحين حانت ساعة الحقيقة في كامب ديفيد 2000، تبين أن أن ايهود باراك يريد الاستيلاء على أكثر من ثلث الضفة الغربية (45%)، لأنه كان يريد ضم القدس، وضم المستوطنات الكبيرة، وضم مستوطنات غور الأردن، والاحتفاظ بسبع قواعد عسكرية مع الطرق الموصلة إليها. ومع الأرض كان باراك يريد الاحتفاظ بمواقع المياه الجوفية، وبالسيادة على الجو، والسيطرة على معابر الحدود، ورفض حق العودة، واستغرب الإسرائيليون من دون خجل، رفض عرفات لهذا الحل الإسرائيلي «الكريم»، وشنوا عليه الحرب، ثم حاصروه، ثم قتلوه بالسم. لقد فهم المتفائلون باتفاق اوسلو، أنهم سيساومون على دولة فلسطينية ضمن حدود 1967 مقابل التراضي حول حل القضية الفلسطينية، وفوجئوا بأن المساومة تتركز حول الضفة الغربية فقط، وأن لا أحد يبحث فعليا بالقضية الفلسطينية، والتي هي الأصل والجوهر.

والقضية الثانية التي سيتواصل حولها الحوار: ما هي خطة ايهود اولمرت؟ ما الذي سيعرضه الإسرائيليون في تفاوض جديد بينهم وبين الرئاسة الفلسطينية؟ هل سيعرضون شيئا آخر غير خطة ايهود اولمرت، كطبعة مزيدة ومنقحة من مشروع ايهود باراك؟ وهل سيتراجع ايهود اولمرت خطوة واحدة في عملية التفاوض، وهو يحمل معه دعم الإدارة الأميركية لخطته، وهو الدعم الذي تمثل في وصف الرئيس جورج بوش لتلك الخطة بأنها «خطة شجاعة» تنسجم مع خريطة الطريق؟ هل سيتراجع ايهود اولمرت خطوة واحدة، وهو يحمل معه رسالة جورج بوش إلى آرييل شارون عام 2004، والتي منحه فيها تأييد واشنطن لأربعة مواقف إسرائيلية استراتيجية: عدم العودة إلى حدود 1967. اعتبار المستوطنات وقائع ديمغرافية يجب أخذها بعين الاعتبار. عدم القبول بحق العودة للاجئين الفلسطينيين. وأخيرا الإقرار بيهودية الدولة، حتى في عصر الديمقراطية والعلمانية والليبرالية والعولمة.

إن الإسرائيليين يعملون مع الأميركيين على تحويل المفاوضات إلى مطلب أساسي قائم بذاته، أما مضمون المفاوضات فهو إسرائيلي بحت، فإذا فشلت المفاوضات تمت العودة سريعا إلى الحل المنفرد الإسرائيلي، وهذا هو الموقف الحقيقي لموقف الرئيس بوش القائل: إن خطة اولمرت خطة شجاعة ولكننا نفضل التعامل معها عن طريق المفاوضات.

لقد قدمت حركة حماس أخيرا ثلاثة مواقف بارزة لمساعدة الرئيس محمود عباس في تنفيذ خطته التفاوضية: تصريح اسماعيل هنية بأن انسحاب إسرائيل إلى حدود 1967 سيؤدي إلى سياسة سلام مع إسرائيل. وتصريح محمود الزهار في القاهرة بأن الحكومة الفلسطينية تدرس المبادرة العربية بجدية وأن موقفا ايجابيا سيعلن بشأنها. أما الموقف الثالث فتمثل بموافقة حركة حماس على اقتراح الرئيس محمود عباس الذي يتضمن تشكيل لجنة وطنية استراتيجية تساعده في المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي، وقد تم طرح هذه القضايا كلها في الحوار الذي تم، ولكن ماذا بعد؟

إن المشكلة قائمة في الجانب الإسرائيلي الذي يريد فرض الحل المنفرد، سواء داخل المفاوضات أو خارجها، وقائمة في الموقف الأميركي الذي يريد من الفلسطينيين قبول الإملاءات الإسرائيلية، إنما بشكل ديمقراطي، ومن خلال المفاوضات، وقائمة في الجانب الفلسطيني الذي لا يزال يؤمن بأن هذا التكتيك سيقود إلى نتائج ايجابية.

وهنا سنصل إلى النقطة الثالثة التي سيتواصل حولها الحوار الوطني الفلسطيني، خارج قاعات المؤتمر وامتدادا له، كيف نتصرف تجاه مخطط الإذعان الإسرائيلي؟ والجواب سيقرره الشارع الفلسطيني كما حدث في الانتفاضتين الاولى والثانية، إذ ستنشأ بالضرورة مقاومة شعبية شاملة لرفض مخطط الإذعان، وسيكون هذا الرفض هو التعبير الفلسطيني عن المواجهة، ولكن هل ستبقى المواجهة فلسطينية ـ إسرائيلية؟ الجواب حتما لا، إذ أن التوتر الفلسطيني ـ الإسرائيلي العنيف سيقود إلى توتر عربي ـ إسرائيلي، وربما يقود إلى ما هو أبعد من ذلك، على ضوء ما يجري في العراق وتجاه ايران، ومن دون أن ننسى إصرار إسرائيل على ضم منطقة الجولان السورية.

هذه هي صورة المستقبل التي سيتواصل الحوار حولها، وهو حوار سيشارك فيه المتفائلون قبل المتشائمين، والمستسلمون قبل الداعين لمواصلة النضال.