العبودية في موريتانيا.. الحقائق الغائبة

TT

أثار الخطاب الأخير للرئيس الموريتاني الجديد، العقيد أعلي ولد محمد فال، الذي تعهد فيه بمحاربة كل أشكال العبودية في بلاده، اهتماما واسعا في وسائل الإعلام الدولية التي تناقلته ببعض الإثارة ، موجهة الاهتمام إلى أن موريتانيا تكاد تكون البلد الوحيد في العالم الذي لا يزال يعرف هذه الظاهرة المستهجنة الغربية على العصر الحديث.

صحيح أن إقرار ولد محمد فال الضمني بوجود بعض آثار ومخلفات الظاهرة يشكل تحولا نوعيا في الخطاب السياسي الرسمي، بالمقارنة مع سلفه الذي كان يعتبر الموضوع من التابوهات التي لا يجوز تناولها، وطالما واجه منظمات حقوق الإنسان والمجموعات السياسية والمحلية المهتمة بالظاهرة بالقمع والمجابهة الصارمة.

إلا أن للموضوع خلفيات متعددة، ورهانات متشابكة، ترتبط بالسياق العام لأوضاع البلاد وأزماتها الراهنة، ما يستدعي وقفة تحليل معمقة، في ما وراء المسبقات والمستنسخات السائدة.

وسنكتفي هنا بتوضيح أربع حقائق رئيسية، نادرا ما يتم الوعي بها لدى المراقبين الخارجيين للوضع الموريتاني:

أولاها: إن ظاهرة الرق في موريتانيا لا تختلف من حيث مسارها التاريخي وواقعها الحالي عن السياق الساحلي ـ الغرب أفريقي العام. فلقد ارتبطت بتجارة الرق النشطة في المنطقة خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولم تختص بها مجموعة قومية بعينها، ولذا لا بد من دحض الصورة الوهمية التي ثبّتها التاريخ الاستعماري حول دور العرب المحوري في تجارة الرق، مما تفنده الحقائق التاريخية الموضوعية.

ولعل الكثيرين لا يعرفون أن مخلفات الرق لا تزال قوية في أغلب بلدان الساحل الإفريقي، وتكفي الإشارة هنا إلى أن البرلمان النيجيري أصدر قانونا يجرم الاسترقاق في مايو 2003، في حين عقدت حكومة بوركينا فاسو ندوة حوارية حول «آثار ومظاهر العبودية» في البلاد بتاريخ يوليو 2005.

ثانيتها: ليست لظاهرة العبودية في موريتانيا أي صبغة قومية ولا تدخل مباشرة في إطار التركيبة العرقية، على الرغم من الاعتقاد الشائع بأنها محصورة في الأغلبية العربية.

ففضلا عن كونها قائمة في المجموعات الإفريقية (البولارية، السونكية والولفية،) بالوتيرة نفسها، فإن تركيبة فئات لحراطين (أي المجموعات المنحدرة من أصول استرقاق) تتشكل من روافد عرقية متنوعة، حتى ولو كان يغلب عليها سواد البشرة الذي هو السمة الغالبة على أكثر الموريتانيين.

وفي كل الأحوال، فإن الحراطين يشكلون اليوم مكونا رئيسيا من مكونات الأغلبية العربية، وليست لهم في الغالب مطالب تميز قومي، بل ان زعيم الكتلة السياسية المدافعة عن حقوقهم مسعود ولد بلخير هو الآن نفسه رئيس الحزب الناصري الموريتاني (حزب التحالف الشعبي التقدمي)، ولم يفتأ يكرر في تصريحاته المتتالية أن المطالب الاحتجاجية لمجموعته تنحصر في تحقيق المساواة في الحقوق والامتيازات مع باقي مكونات الشعب، وليست مدفوعة بمنطق هوية خصوصية.

ومع ذلك، لا بد من التنبيه إلى أن هذا المشكل الاجتماعي التاريخي يتداخل أحيانا مع صراع الهويات القومية الذي ينفجر في فترات التأزم الداخلي، بيد أن الأمر يتعلق بمعطيات آيديولوجية وسياسية وليس بمحددات موضوعية علمية.

ثالثتها: ليس من الصحيح أن موريتانيا هي آخر بلدان العالم إلغاء للرق. بل يمكن القول مع عالم الاجتماع المرموق عبد الودود ولد الشيخ «إن موريتانيا هي أكثر بلدان العالم إلغاء للرق». فأول إلغاء قانوني رسمي للعبودية يعود إلى بداية القرن العشرين، وقد تم على يد السلطات الاستعمارية الفرنسية التي عممت القانون على كل مستعمراتها الإفريقية شمالا وجنوبا، ثم أكدت الدساتير المتتالية التي اعتمدتها دولة الاستقلال منذ 1959 هذا الإلغاء.

وفي سنة 1979، اضطرت الحكومة العسكرية الحاكمة أوانها إلى إصدار قانون مثير بإلغاء الرق، استجابة لمطالب حركة الحر المدافعة عن حقوق الحراطين، على الرغم من أن القانون في ذاته لا يضيف أي معطيات تشريعية جديدة على المدونة القائمة.

ويعكس هذا التذبذب القانوني المصاعب والإشكالات العصية التي واجهت الحكومات الموريتانية في التعامل مع موضوع آثار ومخلفات الرق.

الحقيقة الرابعة: بغض النظر عن الخلاف الاصطلاحي المحتدم في موريتانيا حول التوصيف الموضوعي للظاهرة هل ثمة مظاهر فعلية للعبودية أم مجرد مخلفات اجتماعية لها؟ فإن الظاهرة في ذاتها تلتبس وتتداخل مع أصناف أخرى من الاستغلال والتفاوت الاجتماعي، لا تدخل في نطاق علاقة الاسترقاق.

ولقد بيّن الباحثان المرموقان محمد ولد مولود وبابكر موسى في دراسات منشورة حول ملف العبودية في موريتانيا، أن علاقة العبودية من حيث هي امتلاك إنسان لإنسان بصفته قوة عمل محضة تتدرج في سياق نظام اقتصادي واجتماعي لم يعد قائما، إلا انها تلتبس راهنا بشبكات الاستغلال الجديدة الناتجة عن اختلالات حداثة رثة، عجزت فيها الدولة عن أداء دورها الإدماجي، كما هي نتائج تركيبة اقتصادية متوحشة تنتج الفقر والتهميش، ومن الطبيعي أن تدفع المجموعات، المقصية تاريخيا من الحراك الاقتصادي، ثمن هذا التحول الذي لا علاقة له بالنسق التاريخي والاجتماعي الذي أنتج العبودية.

وخلاصة الأمر، إن للحوار الدائر راهناً في موريتانيا حول ملف العبودية أوجها متعددة، تشكل في حقيقتها مسالك متداخلة لرصد الوضع الاجتماعي والسياسي في موريتانيا، ومن ثم الجدل الواسع والكثيف الذي فجرته كلمة الرئيس ولد محمد فال في مدينة أكجوجت الأسبوع المنصرم.

أسوق في نهاية المطاف حديثا سمعته من سناتور أمريكي أسود زار موريتانيا في نهاية التسعينات قال لي «عندما قدمت إلى موريتانيا كان أول طلب طلبته من سفارتنا هو تمكيني من زيارة سوق العبيد الذي سمعت عنه في نواكشوط.. ولم أصدق نفي السفارة لوجوده.. وبعد أن أنهكني البحث عنه قررت أن أطوف في البلاد شرقا وغربا لاكتشافه... وخلصت بعد إقامة أسبوع في بلادكم ولقاء كل أطيافها السياسية ومنظماتها الأهلية، أن وضعكم لا يختلف عن أوضاع بلدان القارة الإفريقية بكاملها.. فقر واستقلال، إن أردت أن تسميه عبودية فلك ذلك.