لبنان.. وبعض رواده ولوحاتهم.. لنمح من ذاكرة أجيالنا صور الحرب والدمار

TT

كانت لفتة نحو ذوي الخبرات أن يقام في قلب بيروت تمثال لفنان كبير كجبران خليل جبران، أحد رواد الفن في لبنان على الصعيدين الوطني والعالمي. وما يشدني إلى كتابة هذه الخاطرة، هو أن عمر عبد الرحمن الأنسي (والده الطبيب اللبناني عبد الرحمن الأنسي الذي عاين أصدقاءه شهداء السادس من مايو (أيار) منتدبا من قبل بلدية بيروت، وجده العلامة عبد الرحمن الأنسي)، كان صديقاً لجبران الذي عرفه الأنسي جيداً عبر الفنان يوسف الحويك الصديق المشترك، لكن ذلك ليس كل شيء، فهنالك تساؤل: لماذا نترك الجفاء والفرقة بين الأصدقاء؟

هناك تراث وثروات في لبنان ما زالت مدفونة ومشردة ولا تستقطب أي انتباه أو التفاتة عفوية من ذوي الثقافة والعلم والمعرفة والمسؤولين، بينما نرى فنانينا الرسامين رواد النهضة والثقافة اللبنانية أمثال عمر الأنسي، مصطفى فروخ، صليبا الدويهي، داود القرم، وغيرهم.. مدفونين، مقوقعين، مشردين، لوحاتهم معلقة في بيوت بعض اللبنانيين الميسورين أو في بيوت أبنائهم أو ورثتهم يعانقونها كأبنائهم ويحافظون عليها ينتظرون من يسدل الستار عنها.

قبل رحيله أطلق الفنان المبدع عمر عبد الرحمن الأنسي عبارته الشهيرة «لم أترك لكم أولاداً تعتنون بهم، فهؤلاء (أي اللوحات التي أبدعتها ريشته) أولادي اعتنوا بها ولا تفرطوا». وقوله هذا ينطلق من نظرته الثاقبة إلى لبنان واللبنانيين ومن احساسه المرهف بأن اللوحات الفنية كنز دفين.

لماذا لا نفتح الأدراج ونزيل الغبار عن أعمال عمر عبد الرحمن الأنسي العابقة بالهدوء والعفوية والتواضع والبساطة والشفافية؟

لقد حان الوقت كي نسأل المسؤولين ومن يهمهم الأمر: أين هذا الكنز الدفين الذي تركه عمر الأنسي شاعر النور؟.. ليس نور الشمس أو نور النهار، إنما نور القلب والعقل وبهجة الروح ويقظة الحلم.. نور الداخل لا نور الخارج.

أين بيوت القرميد التي خلدتها ريشته وأين السماء الصافية والداكنة؟، أين البحر الساكن والهائج والجبل الشامخ؟ أين سهل البقاع الخصيب وصخور كسروان؟ أين غابات الشوف، وغزلان البراري، والبادية والبدويات، وفلاحو الضيعة والظل والنور؟ أين الأقحوان والبنفسج وشقائق النعمان؟

بالله عليكم دعونا نمحو من ذاكرتنا وأذهاننا وأفكارنا صورة الحرب والدمار، ونتيح المجال أمام فلذات أكبادنا للرجوع بالذاكرة إلى لبنان الاخضر، لبنان الطبيعة الرائعة الجمال، لبنان الحضارة، لبنان الثقافة والإبداع الفني والتراث.

إننا نطوف بلاد اللّه الواسعة قاصدين المتاحف ومنازل المشاهير من الكتّاب والرسامين والموسيقيين كي نمتع أنظارنا ونثري أفكارنا بحضارات وأمجاد وطقوس وعادات وساحات ومتاحف ومعارض لرسامين ونحاتين تفتخر شعوبهم بهم وتخلدهم، فتتعاون في سبيل ذلك الدوائر الحكومية المختصة مع البلديات وتجمع تراث هؤلاء من لوحات ومخطوطات وقصاقيص ورق عليها بقايا كلمات أو مشاريع رسومات وتضعها في متاحف، كما نراها تصدر الطوابع والبطاقات البريدية وتحيط هذا التراث بحراسة الذي يلفت انتباه السائح إلى أهميتها وقدسيتها وفي الوقت نفسه يعود هذا التراث بالأموال الطائلة على صناديق الحكومات والبلديات.

لقد فوجئت عند قراءتي في بعض الصحف والمجلات ما معناه ان البساط أصبح يسحب من تحتنا دون أي ضجيج، حيث يزور بلادنا أشخاص يأخذون منها ما يبهرهم من لوحات لعرضها في مزاداتهم وصالاتهم، الأمر الذي يظهر أهمية فنانينا ورسامينا وبأنهم كسواهم من الرسامين الأوروبيين، لكن الذي يحدث أن لوحات الأجانب تباع بملايين الدولارات، بينما لوحات رسامينا ما زالت لا تأخذ حقها.

إنني لا أطالب بملايين الدولارات ولا أريد أن أعمل من «الحبّة قبّة»، بل أطالب المسؤولين بالحفاظ على ثروتنا الفنية.

ولقد حان الوقت لكي نتحرك على جميع الصعد ونتعاون لنمجد رسامينا الذين غادروا الدنيا ونخلدهم، لأنهم رواد التراث والابداع والأصالة والشفافية، فهم حقا مبدعون وخلاّقون.. وحقا انهم شهداء الفن، وانهم لبنان الحي، لبنان العراقة، لبنان الشفافية، لبنان المحبة، لبنان الذي كان سلاحه الريشة والقلم.

وما نقوله عن لبنان نقوله عن كل رسامي الأمة ومبدعيها.. من المحيط إلى الخليج.

* كاتبة من لبنان