رد متأخر جدا على الطيب صالح.. اسكت يا توينبي

TT

بدأت، مع سواي، قراءة الطيب صالح في الستينات. ليس فقط بالعربية. فقد كانت تترجم «الكاونتر»، وهي أهم المجلات الأدبية آنذاك، بعض أعماله أيضا. وكان يسعدني، في تلك المرحلة، أن يُترجم كاتب عربي إلى لغة أخرى وفي مجلة تضم كبار كتاب بريطانيا وفرنسا وايطاليا. وبعدها أدمنا القراءة له والقراءة عنه. وربما في كل موسم أعيد قراءة «موسم الهجرة إلى الشمال». ولم استطع أن أصدر حكما عليها حتى الآن. ولا أن أصنفها في خانة أدبية أو جنس أدبي ما. فالطيب متعدد الثقافات والأكوان الصغيرة والأبراج الأدبية. ومثل السحرة يمكن أن ترى فجأة أن كاتبا بوليسيا قد خرج من قبعة روائي يستلقي على النيل في ضوء القمر.

أمس تعرفت إلى سرد أدبي جديد عند الطيب. أرسلت إليّ «بيسان» كتابه «منسي: إنسان نادر على طريقته (1)». وتسلمت الكتاب في وقت خطأ. كانت الساعة على وشك أن تدق منتصف الليل مثل ساعة بطرسبرغ في روايات دوستويفسكي. ومع ذلك غامرت بالشروع في القراءة. فهذا كتاب لم اطلع عليه قبلا. وعندما انتهيت من الكتاب لا اعرف ماذا كانت تدق ساعة البرج في بطرسبرغ. أو «ساعة النجمة» في بيروت. وكنت كلما هدّني النعاس وشدني إلى النوم، يمسك «منسي» بكتفي ويوقظني. وأحيانا كنت اضحك مقهقها ثم اكتم ضحكتي خوف أن يخيّل إلى العائلة أن الجنون قد دخل عليّ من النافذة التي تطل على مبنى «العصفورية» سابقا. هنا يبدو الطيب صالح، وهو يكتب فصلا من السيرة الذاتية وسنوات لندن الأولى من خلال رفاقه، أديبا ساخرا وشابا ضاحكا. وبطله لا يكف عن إضحاكه وإضحاكنا: حمل عدة أسماء: احمد منسي يوسف. ومنسي يوسف بسطاوروس. ومايكل جوزف. البروفسور مايكل جوزف. وعمل حمالا وممرضا ومدرسا وممثلا وكاتبا وأستاذا جامعيا. ترك أبناء مسيحيين وأرملة وترك أبناء مسلمين وأمهم. بدأ حياته في لندن بسيارة صغيرة مضحكة ومات تاركا صفا من السيارات الفضية والاسطبلات. لم يكن وسيما ولا جذابا بل العكس. كان اقرب إلى السمنة واقرب إلى القِصر واقرب إلى الصلع. ومع ذلك حاول أن ينافس عمر الشريف على دوره في فيلم «لورانس العرب». وصادق الكاتب الايرلندي صامويل بيكيت المعروف بعزلته وصار يناديه «سام». وذهب لسماع محاضرة للمؤرخ العظيم ارنولد توينبي فنام. وعندما أفاق وقف يهاجم توينبي على عدائه للعرب. وكان توينبي يتحدث طوال الوقت عن الحق العربي. وقد ذهل لما يسمع. وذات مرة قرر أن يحاضر في اوكسفورد عن فلسطين. وفي الطريق إلى المدينة سأل الطيب صالح: «إيه حكاية فلسطين بتاعتكو دي. اديني كلمتين عنها». وحاضر ساعتين! وقرأت منسي في ثلاث. وقد حان الوقت لأرد على صديقي الطيب: اعذرني على التأخير.

(1) صدر عن دار رياض الريس للكتب والنشر