فشل وساطة الحركة الدولية للإخوان .. في ترميم جسور «دولة الإسلام» في السودان

TT

عاد وفد قيادات الحركة الدولية للاخوان المسلمين من السودان من دون أن ينجح للمرة الثانية في رأب الصدع أو مدّ الجسور بين الترابي والبشير. فقد فشل في المرة الأولى في توحيد الجناحين، وفشل في المرة الثانية في أن يجعل فراقهما بإحسان بدون صدام، خاصة بعد اعتقال الترابي والحجر على نشاط حزبه ومصادرة صحيفته ودوره.

لقد أصدر الوفد بياناً من تسع نقاط اعتبرها أساسا لإصلاح ذات البين، لكن تلك النقاط كانت موضع خلاف وتعديلات هنا وهناك واتهامات متبادلة انتهت بالفشل التام. وما يهمنا في هذا السياق، أن نتوقف عند بعض تلك النقاط للتعرف على المنهجية التي اعتمدها الوفد في ردّ أسباب ما وقع من خصام وتشخيص ما ينبغي ان يتبع من الجانبين للاستمرار في حكم السودان بحسبانها التجربة الإسلامية الرائدة في العالم على حدّ رأيه.

إن النقطة الأولى التي وردت في البيان وتأسست عليها ما تلاها من نقاط لا ترد الخصومة إلى أصولها الحقيقية وإنما تلتف على الحقيقة وراء وهم زائف وبالتالي فإن كل الركائز التي استند إليها البيان ابعد ما تكون عن حكم الريادة للسودان.. انها تقول في مبتدئها «لقد عجز أعداء السودان والإسلام عن تقويض التجربة الإسلامية السودانية الرائدة في ميادين الحرب، فلجأوا إلى الوقيعة بين بناة هذا المشروع الإسلامي والنفاذ من نقاط الضعف ويتظاهرون بمناصرة فريق للقضاء على أخيه ليسهل لهم القضاء بعد ذلك على من تبقى».. مع احترامنا للسادة العلماء الأجلاء نقول لهم ببساطة: إن أسباب الصراع لم تكن بفعل أعداء الإسلام أو السودان وإنما بشهادة المتصارعين وما اورداه من حيثيات: ان السلطة والتسلط كانا وراء تفجر الصراع والانقسام، فقد شكا البشير مما أسماه ازدواجية رئاسة السلطة بينه وبين الترابي، بينما حاول الأخير الاستعانة بالبرلمان لتقليص سلطات رئيس الجمهورية بتمرير تعديلات دستورية تجيز اختيار رئيس للوزراء يكون مسؤولا امام البرلمان وتجعل منصب الوالي في مختلف اقاليم السودان بالانتخاب، وفسر الترابي الهدف من وراء هذه التعديلات بسط الحريات، واعتبرها البشير تحجيماً لسلطات رئيس الجمهورية! تلك هي الحقيقة يا قادة التنظيم الدولي للاخوان المسلمين، فأين دور أعداء الإسلام أو السودان في تفجر هذا الصراع؟ وقتئذ حلّ البشير البرلمان وأعلن حالة الطوارئ وتواصلت التداعيات وكشف كل فريق ما يعرفه عن الآخر سواء في ميادين التسلط او الخداع أو الفساد مما اظهر للعالم فشل التجربة من أفواه من صاغوها وخططوا لتنفيذها وتعاونوا معاً لتنزيلها على ارض الواقع لمدى عقد من الزمان متسترين بواجهة الإسلام، ومع ذلك تصرون أيها السادة ومن دون استحياء على تسميتها بالتجربة الإسلامية السودانية الرائدة وبأن أعداء الإسلام هم الذين كانوا وراء الانقسام! أما النقطة الثالثة فتقول: اطلاق سراح سجناء الرأي، وعدم إبرام أي اتفاق مع الأعداء المحاربين إلا بتخويل من الدولة، وهذه النقطة تحفظ عليها الترابي واجرى تعديلا فيها رفضه البشير، لكن العبرة في مضمونها تكمن في اعتبار الحركة الشعبية بقيادة جون قرنق هي العدو الأول وكل من يحمل السلاح ضد الحكومة، ومن حق الحكومة عدم الاعتراف بأي اتفاقات من هذا القبيل. اما ان تحرم على اي شريحة سياسية اجراء اي اتفاقات أو تفاهمات مع قوى سياسية سواء كانت جنوبية او شمالية لمجرد انها تحمل السلاح ضد النظام، فهذا أمر يتجاوز كل الحدود والحقوق، ولا يساعد على خلق مناخ للحوار أو الاتفاق، ويجعل الدولة تحتكر العمل السياسي في أهم ما يلزم السودان من سلام واستقرار، وأكثر من هذا ينقض اعتراف الحكومة بالتجمع الوطني المعارض لأن الحركة الشعبية هي جزء منه وكل فصائله الأخرى تحمل السلاح مما يعتبر نكسة من الحكومة إزاء تعاملها مع الحركة السياسية فضلا عن كونها لا تكل ولا تمل من التفاوض مع قرنق ومن السعي للتوسط للقاء معه في أي مكان وزمان سواء كان بهدف ادعاء احتكارها لتمثيل كل شمال السودان أو للتسويف أو المراوغة في عدم الوصول الى اي اتفاق أو لاقتسام السلطة بينها وبينه من دون التفات للآخرين وحقهم في السلطة.

لعل ابرز ما ينبغي تناوله في مسألة الاعداء هذه، هو رؤية التنظيم الدولي للاخوان المحاربين الجنوبيين، اذ يعتبرهم اعداء للاسلام وينعتهم بالصليبية وما إلى ذلك من نعوت توجب مقاتلتهم على نسق ما يحشد لهم النظام من قوافل المجاهدين وكتائب الجهاد، وهذا أمر لا يجوز شرعاً ويتنافى مع حقوق المواطنة لكل من لا يدين بالإسلام في السودان، بل ان امثال تلك الحملة وتلك الفتاوى هي التي تمزق نسيج وحدة السودان شعباً وارضاً. وغالبية المسلمين في السودان يتواصون مع اخوتهم في الجنوب على ان المواطنة هي اساس الحقوق والواجبات لكل أهل السودان، بل ان كل القوى السياسية الرئيسية المنتمية للاسلام عبرت عن استيائها من مسلك التنظيم الدولي للاخوان، لكونه لم يتحرك نحو السودان ابان كل ازمته ومحنته من جراء حكم حركة الإسلام السياسي إلاّ عندما انشقت الجبهة الإسلامية وجعل محاولته قاصرة على السعي لاصلاح ما اصابها من شرخ من دون التفات لأحوال وأهوال ما أصاب المسلمين من بطشهم وتسلطهم! ونخلص من مضمون هذه النقطة القائمة على الدعوة الى اطلاق سراح السجناء باشتراط عدم ابرام اي اتفاق مع «الأعداء» الى ان الفكرة مقصورة على اطلاق سراح الترابي وجماعته لأن سجناء الرأي الآخرين هم سكرتارية التجمع المعارض الذي يعتبر حركة قرنق جزءا منه. ومع ذلك رفض الترابي تخليه عن مذكرة التفاهم التي عقدها معه لأنها تعتبر نكسة كبيرة لحزبه، بل انه رفض التفاهم مع الوسطاء في البداية باعتبار انه ليس سجين رأي! وتعتبر النقطة الخامسة في بيان لجنة الوسطاء مجرد تمنيات لإحياء مشروع قد مات، إذ تنص على «التأكيد على التمسك بالحفاظ على المشروع الإسلامي» وهو مشروع لا وجود له أصلا إنما مجرد شعارات كانت للمتاجرة باسم الاسلام، وقد اضرت باسمه ضرراً بليغاً حسب اعمال وشهادات وافادات من قاموا بأمره ثم اقترفوا بحق السودان ما جعلهم عرضة للادانة، ولا شك أن دعوة التنظيم الدولي للتمسك به ستجعله على الأقل شريكا بالتحريض والمباركة في كل ما أصاب السودان وأهله من ضرر، خاصة أن النقطة السادسة تدعو إلى إعطاء الحكومة فرصتها الدستورية لتنفيذ برنامجها مع تقديم النصح إليها كلما اقتضى الأمر ذلك، والوفاء لها بالطاعة الشرعية. هنا وافق السادة العلماء بوجوب تسليم الآخرين للحكومة لتنفيذ برامجها اعترافاً بشرعيتها الدستورية المزعومة. وهي شرعية لم يعترف بها أحد، بل ان كل القوى السياسية قد قاطعت الانتخابات ولم تعترف بها، وبالتالي حتى الترابي لا يعترف بما أسماه العلماء «الشرعية الدستورية للنظام!». وحتى البشير نفسه، أكد عبر مؤتمر صحافي أعلن فيه فشل الوساطة: انه يرفض طلب بعض القوى السياسية له بأن يكون رئيساً قومياً، وقال: «إذا أردت أن أكون رئيساً قومياً سأستقيل من منصبي وأترشح مستقلا»، وأضاف: «المؤتمر الوطني حزبي الذي أتى بي للسلطة، فليس عملياً ولا أخلاقياً أن أدير ظهري له بعد أن أوصلني إلى السلطة!»، ترى هل البشير يحتاج إلى من ينشط ذاكرته بأنه وصل إلى السلطة على ظهر دبابة؟ وهي ما زالت تحرس حكمه وتسيره بقانون الطوارئ؟ وإذا كان البشير يرفض أن يكون رئيساً قومياً، فهل في هذا الرفض أي مؤشر إلى أنه ومن معه يريدون وفاقاً واستقراراً وسلاماً؟! تجيء النقطة السابعة في بيان مجموعة قيادات التنظيم الدولي للاخوان لتيسر لنا الفرصة للاستزادة من شرح وتحليل هذا الجانب، فهي تنص على «ضمان التداول السلمي للسلطة عن طريق انتخابات حرة ونزيهة»، لكن هذا الضمان المشار إليه على ما به من إبهام وعدم تحديد واضح وصريح إلى متى وكيف تجرى الانتخابات ويتم تداول السلطة؟ فإن البند السادس من بيان العلماء ينسف أهم جزئية في الانتخابات الحرة والنزيهة، لأنه يطلب طاعة الدعوة ومساعدتها في تنفيذ برنامجها التزاماً بشرعيتها الدستورية ما يعني ترك النظام على حاله لمدى أربع سنوات أخرى هي عمر الدورة الانتخابية التي جرت بشكل احادي قبل فترة وجيزة! وبالتالي يصبح الحديث عن انتخابات حرة ونزيهة ضرباً من تزيين الكلام لا أكثر ولا أقل، والتمويه على الآخرين! ولعل ما يدل على أن الحركة الإسلامية تخادع وتراوغ في مسألة مسلسل تداول السلطة عبر الانتخابات ما سمعته من احد القياديين البارزين السودانيين، إذ قال: عندما ناقشنا مسألة الحريات والانتخابات في اجهزتنا السرية في المبتدأ ردّ الجناح الحاكم: ان الوقت لم يحن بعد واننا اذا اقدمنا على خطوة كهذه فلن يكون لنا أي وضع في السلطة في المستقبل القريب، ولذلك ينبغي ان نعمل إلى أن نتمكن وساعتها يكون لنا الحظ الأوفر في تداول السلطة!.. الآن يقول الجناح نفسه بعد أن تمكنا من السلطة واستبدلنا تركيبة الجيش والخدمة المدنية واستخرجنا البترول ما الذي يدفعنا إلى ترك الحكم أو دعوة الآخرين لمشاركتنا في السلطة سواء عبر وفاق أو انتخابات؟! لا شك أن هذا المنطق بما استصحبه من انفراج في العلاقات الخارجية كان وراء التصريحات الأخيرة للبشير التي أعلن فيها صراحة انه لن يكون رئيساً قومياً ويتنكر لحزبه، وهو ما جعله يستبعد لجنة الوساطة فيعلن فشلها عبر مؤتمر صحافي قبل أن تعلن هي يأسها.. ومن ثم تقرر حكومته في سابقة من شأنها نسف كل ما بدا من تواصل مع التجمع الوطني الديمقراطي المعارض من انها لن تعترف او تتفاهم مع كل من يتحالف أو يتوافق مع حركة قرنق بعد أن كان البشير التقى قيادته في اسمرة.

ان كل هذه التطورات والمواقف تكشف ان أي حديث عن وفاق أو مبادرات جادة يمكن ان تقود إليه لا مكان لها في مخططات الحكومة، وها هو نائب البشير علي عثمان يعلن من منصة البرلمان ما يفيد قهر حركة التمرد بقوة السلاح مما سيدفعها إلى طاولة الانتخابات، لكن الحركة سرعان ما ردّت الهجوم الذي كانت تخطط له الحكومة لاستعادة الكرمك على الحدود الاثيوبية وكبدت الحكومة خسائر كبيرة جعلت قواتها تؤثر الانسحاب مما يعني ان استمرار الحرب لن يجلب السلام.. وفي ذات الوقت يواصل النظام جهده في محاولات مستميتة «لفركشة» المعارضة منتشياً بانسلاخ حزب الأمة من التجمع ومؤملا في تفتيت كيان الاتحاديين على أمل ان يستتب الحكم لهم وحدهم.

ومثلما يطمح الجناح الحاكم في تفكيك المعارضة وتقطيع أوصالها والقضاء على جناح الترابي، فإن الكثير من الهمس يدور في أن الجناح الحاكم نفسه أخذ يتحول إلى عدة اجنحة وان الانقسامات تدب في أوساطه، ولعل هذا ما دفع البشير إلى أن ينفي عبر مؤتمر صحافي ما وصفه بالشائعات عن خلافات بينه وبين نائبه علي عثمان، لكن البعض يشير إلى أن هناك بالفعل خلافات حول اعتقال ومصير الترابي وجماعته، وكذلك خلافات حول الوفاق بين راغب فيه وعازف عنه.. وهناك خلافات حول تمكين الأجهزة الأمنية من السلطة عوضاً عن السياسيين، وكذلك يتردد حديث عن الجناح العسكري وتكتله ازاء الحزب الحاكم ودوره، بل هناك خشية من حركات داخل الجيش لأن الحاكمين غير مدركين إلى حقيقة من معهم ومن مع الترابي بعد ان حشدوا عبر عقد من الزمان آلاف الضباط من التيار الإسلامي فضلا عن قوات الدفاع الشعبي والدبابين إلى آخره. وحتى وفد قيادات الحركة الدولية للاخوان المسلمين الذي زار السودان أخيراً، هناك تباين في وجهات النظر حوله.. فمنهم من يرى انه قدم الى السودان بإيعاز من النظام لأن جماعة الاخوان المنضوية تحت لواء التنظيم الدولي قد شاركت في الحكومة بوزير الارشاد والاوقاف عصام البشير احد القياديين في جماعة السودان ولهذا فإنها جاءت لتؤازر الحكومة بينما هناك من يرى انها تعاطفت مع الترابي بحسبانه سجيناً وسعت الى الافراج عنه لكنها لم تفلح وبالتالي فإنها لم تحقق للنظام غرضه في التأييد للحكومة والإدانة للترابي. وانها غادرت السودان ولم تفلح حتى في تخفيف حدة الخلاف وإنما زادتها الزيارة اشتعالا بدليل اقدام الحكومة على اجراء المزيد من الاعتقالات في اوساط قيادات الترابي التي كانت تناقش بعض مقترحات من لجنة الوساطة، مما جعل الوسطاء يغادرون السودان ويتركون حركاته وراءهم اكثر تمزقاً وهم في غاية الحرج من تكرار الفشل وخيبات الأمل.