المواجهة في لبنان: الوقت حليف بشار ضد شارون

TT

* فقد «العقيد» باراك كتيبة الدبابات التي هاجم بها القوات السورية في البقاع انسحبت اسرائيل من لبنان برا، لكنها ما زالت تحتله جوا. وهي تستخدم هيمنتها الجوية لقصف «حزب الله» والقواعد الفلسطينية، ولابقاء القوات السورية في لبنان بلا غطاء جوي وصاروخي.

غير ان تدمير قاعدة الرادار السورية في مرتفعات ظهر البيدر هو اكثر من مجرد رد على تدمير «حزب الله» لدبابة اسرائيلية في مزارع شبعا المحتلة. انه دلالة خطيرة على نوايا اسرائيل الهجومية ضد سورية في حالة انفجار الصراع بينهما مرة اخرى في لبنان.

لقد فقدت سورية، باحتلال اسرائيل جبل الشيخ الذي يتوسط حدودها مع لبنان وفلسطين، المكان الأنسب لاقامة قاعدة لرادار الرصد والانذار المبكر. وقد عوضت عن ذلك باقامة قواعد مماثلة في اعالي جبال لبنان. وهي تضمن لها رصد النشاط الجوي الاسرائيلي في شمال فلسطين وفوق لبنان. والأهم ان هذه الرادارات قادرة على تنبيه قواعد الصواريخ المضادة في سورية في حالة اختراق الطيران الاسرائيلي الاجواء السورية من لبنان.

لكن مشكلة الرادارات السورية في لبنان كونها مكشوفة ومجردة من الحماية الجوية. ودلت على ذلك تقنية قصف رادار ظهر البيدر. وقد مهدت اسرائيل اصلا لغزو لبنان في عام 1982 بقصف قواعد الصواريخ السورية على الحدود مع لبنان. وعندما حاول السوريون ادخال صواريخ سام الى لبنان في عام 1985 نشبت ازمة مواجهة عنيفة. ورسمت المداخلة الاميركية نهاية للازمة بأن لا تهاجم اسرائيل صواريخ الحدود، في مقابل ان لا يستخدمها السوريون ضد الطيران الاسرائيلي في لبنان.

وهكذا، فلكي تهاجم اسرائيل سورية عبر لبنان، ينبغي لها تدمير الرادارات ومحطات الانذار في ذرى الجبال، الامر الذي يكفل لها مباغتة شبكة الصواريخ في الداخل السوري التي تتولى حماية جنوب سورية (جبهة الجولان) ووسطها وغربها.

لا أرغب في التهويل، فما زلت استبعد المواجهة العسكرية بين سورية واسرائيل. لكن اخفاق شارون في القضاء على الانتفاضة والمقاومة كما يظهر جليا الآن، وفي حالة استحالة استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، فليس مستبعدا ان يعود الى طرق الباب السوري من لبنان وربما من الجولان، في محاولة لتغطية فشله ولرفع معنويات الاسرائيليين.

شن شارون حرب لبنان قبل عقدين من السنين ضمن مشروع ليكودي لاعادة ترتيب المنطقة لمصلحة الهيمنة الاسرائيلية عليها. ووفقا للمعلومات التي تكشفت في ما بعد، فقد كان الغرض انهاء منظمة التحرير والعمليات الفلسطينية المنطلقة من لبنان، واخراج سورية من هناك، وتسليم الحكم الى الجانب المسيحي المتحالف مع اسرائيل وفرض معاهدة صلح وسلام عليه. يلي ذلك طرد فلسطينيي الضفة الى الاردن واقامة دولة فلسطينية هناك بديلة للنظام الهاشمي.

اخترقت اسرائيل لبنان كالسكين في الزبد، فانهارت المقاومة وانكفأت القوات السورية الى البقاع. مع ذلك فالمخطط الاسرائيلي لم يتحقق ولم يُستكمل. فقد صمد السوريون امام طليعة القوات الاسرائيلية المهاجمة في البقاع الغربي، وفقد «العقيد» ايهود باراك كتيبة الدبابات التي كان يقودها هناك.

لقد احتلت اسرائيل الارض، ولم تستطع احتلال السكان والمحافظة على الاحتلال. واستقال شارون وبيغن، ونظم السوريون مع حلفائهم اللبنانيين والفلسطينيين حرب استنزاف ناجحة انتهت بانسحاب القوات الاجنبية التي نزلت في اعقاب الغزو الاسرائيلي، ثم بانكفاء القوات الاسرائيلية الى الجنوب. وعلى أرض لبنان انتهى الحلم الصهيوني باسرائيل الكبرى، واضطرت اميركا واسرائيل الى الاعتراف على مضض بـ«الدور السوري» في لبنان كعامل تهدئة واستقرار. ومنذ ذلك الحين تغيرت معطيات كثيرة في لبنان والمنطقة.

فقد حافظت اسرائيل على تفوقها النوعي والتقني. لكن الطموح الذي حكم الجيلين الصهيونيين الاول والثاني تراجع كثيرا لدى الجيل الراهن الاكثر تعلقا بمتع الحياة ولذائد الغنائم المكتسبة في الحروب. وعلى الرغم من الغطرسة العنصرية، فقد ضعفت ارادة الجيل الحالي وهو يرى ان التفوق العسكري لا يضمن الامن لاسرائيل او السيطرة على انتفاضة عزلاء من السلاح.

الاغراء كبير بنقل المعركة مرة اخرى الى ارض سورية ولبنان. فهناك العامل النفسي الذي تجسده الكراهية المطلقة للسوريين «اعدى اعداء» اسرائيل. ثم هناك العامل الاستراتيجي الذي وضع مصر والاردن خارج معادلة المواجهة، واضعف السوريين الذين خسروا ايضا سباق التسلح مع العدو الاسرائيلي.

وقد يرى شارون ان الوضع السوري الداخلي وتراجع شعبية الوجود العسكري والامني السوري في لبنان من العوامل المغرية باستفزاز سورية وجرها الى معركة غير متكافئة يديرها على الجانب الاسرائيلي جنرالات شباب من اليهود الشرقيين المتعطشين للانتقام، فيما يديرها على الجانب السوري قادة عسكريون اكبر عمرا.

في مقابل هذه الاغراءات كلها، هناك روادع وموانع. فعلى الرغم من التفوق الاسرائيلي النوعي، فمعنويات السوريين القتالية جيدة. واذا احسنوا التصرف فهم قادرون على انزال خسائر كبيرة بالمهاجمين، واطالة امد الحرب باسلحة وقوات خفيفة الحركة لحرمان اسرائيل من نصر خاطف وفرض هدنة خلال ايام.

ولا أحسب ان اسرائيل يغيب عن حسابها عاملان فاعلان يعملان لصالح سورية. واولهما الجيش اللبناني الذي سيقاتل حتما الى جانبها بكفاءة قوات جيدة التدريب قوامها ستون الف جندي، وان كانت ضعيفة التسليح. لقد اعيد بناء هذا الجيش على اساس وطني لا طائفي. والفضل في ذلك لقائده العماد اميل لحود الذي اصبح رئيسا للبنان ومن أقوى حلفاء سورية. وقد تم تأهيل وتدريب عدد كبير من ضباط هذا الجيش في سورية.

والعامل الثاني هو الانتفاضة حليفة سورية في حالة استمرارها. فهي تشاغل قوات اسرائيلية كبيرة نسبيا. وهناك ايضا الوف المقاتلين الشيعة ونحو عشرين الف مقاتل فلسطيني في المخيمات الفلسطينية في لبنان. وهم جميعا قادرون بشكل وآخر على العمل خلف الخطوط الاسرائيلية.

لدى سورية في لبنان نحو اربعين الف جندي من خيرة القوات، لكنهم موزعون امنيا وليس قتاليا باستثناء البقاع، حيث بنت سورية عبر السنين خطوطا دفاعية قوية. ويتعين على اسرائيل اجتيازها اذا ما فكرت بالالتفاف على جبهة الجولان او الاقتراب من دمشق. وهناك ايضا مضائق وعوائق جبلية صعبة المرور وصالحة لكي تكون كمائن مدمرة للقوات المهاجمة.

النوايا الهجومية الاسرائيلية لا تغيب عن الخطوط الدفاعية السورية. فقد انسحبت اسرائيل من لبنان، وأبقت على رأس حربة متمثلة بمزارع شبعا (عشرين كيلومترا مربعا) في شمال اصبع الجليل. وهذه الارض توفر قاعدة انطلاق لتموين محطات الرصد الاسرائيلية في اعالي جبل الشيخ، ثم هي تشكل بوابة للتعامل مع القوات السورية الحامية لمدخل البقاع الغربي، وهو عبارة عن واد ضيق يفصل بين جبل الشيخ وجبال الشوف.

هناك ايضا عوامل وروادع مفاجئة لاسرائيل، كتحرك القوات المصرية والاردنية وربما العراقية. والارجح ايضا ان الادارة الجمهورية الاميركية التي اعطت ضوءا اخضر لاسرائيل بشن حرب الثمانينات لا ترغب بمعاودة شارون الكرة ضد سورية ولبنان في هذه الايام. فاميركا بوش لا ترغب في تغيير الوضع القائم على الارض، بدليل الانذار الذي تكفل بسحب قوات شارون خلال ساعات بعد احتلالها شمال قطاع غزة.

لا أظن ان المواجهة في حالة حدوثها ستتطور الى حرب مدمرة بالاسلحة الاستراتيجية. فاسرائيل لن تقدم على استخدام سلاحها النووي الا في حالة هزيمتها، وهو احتمال ضعيف. وبالتالي فسورية ايضا لن تلجأ الى صواريخ سكود (أرض ـ أرض) التي تملك أنواعا منها يصل مداها الى 600 كيلومتر، وربما تكون قد نشرت بعض هذه الصواريخ في لبنان.

الواقع ان اميركا غير متحمسة كثيرا لخروج القوات السورية من لبنان. فهي ما زالت تعتبرها عامل أمن واستقرار في بلد هش سريع الانكسار طائفيا واجتماعيا. وقد تحسب لهذه القوات دورا في تجريد «حزب الله» والمخيمات الفلسطينية من السلاح في حالة التوصل الى تسوية سياسية شاملة في المنطقة.

باختصار صريح وان كان مؤلما: اذا كانت هناك متغيرات اقليمية ودولية تردع اسرائيل عن الهجوم، فسورية غير قادرة وحدها على الدفاع. نعم، «الدعوة لضبط النفس لم تعد مجدية» كما قال الرئيس بشار لبوش، على ذمة وكالة الانباء السورية، لكن لا بد من الالتزام بالانضباط والانتظار، نعم، سورية «تملك حق الرد»، لكن من الافضل ان لا تستخدمه.

وكما توقعت في الاسبوع الماضي، فقد رأى عرفات بعد الغارة الاسرائيلية على طريق دمشق ـ بيروت ان طريقه الى دمشق «غير آمن» وربما «غير مناسب»، فأجل الزيارة واستكمال المصالحة بانتظار بصيص ضوء من نفق المفاوضة.

يبقى على بشار ان يمارس الانتظار كما فعل والده، فعامل الوقت يلعب لصالحه وليس لصالح شارون. وكل ما على الرئيس الشاب ان يفعل هو تغيير اسلوب التعامل مع لبنان، والاستفادة من شعبيته في سورية لتوسيع القاعدة الشعبية والسياسية لنظامه هناك.