الحالة العراقية الكويتية بين التقدم والتقهقر

TT

لقد شكل اخفاق مؤتمر القمة العربي الاخير الذي عقد في عمان في التوصل الى حل مرض لكل من العراق والكويت ويلبي الحد الادنى من مطالب كلا الطرفين، خيبة أمل كبيرة للشعب العربي من المحيط الى الخليج.

لقد دأب قادة بعض الدول العربية منذ سنوات على القيام بمحاولات جادة لتسوية الخلافات القائمة بين الكويت والعراق وجمع شمل الامة العربية الممزق منذ حرب الخليج الثانية، حتى بات من المتوقع التوصل الى حل وسط لما يسمى بالحالة العراقية ـ الكويتية. وفي اجتماعات القمة الاخيرة ـ التي عقدت في عمان في الفترة من 27 الى 28 مارس (اذار) 2001 ـ بذل زعماء الدول العربية جهودا صادقة لرأب الخلاف بين العراق والكويت وتقريب وجهات النظر بينهما الى الحد الذي صار معه من الممكن جدا الوصول الى صيغة توافقية تلبي المتطلبات الاساسية للطرفين.

وبموجب هذه الصيغة حصل العراق على تأييد مؤتمر القمة لمطالبه برفع الحصار الاقتصادي عنه، وشجب القصف الجوي عليه وضرورة احترام سيادته على ارضه ومياهه واجوائه، وكذلك المطالبة باستئناف الرحلات الجوية المدنية منه واليه. وبالمقابل فإن الصيغة ضمنت ايضا احترام العراق لسيادة وحدود الكويت، والتعهد بعدم تكرار غزو الكويت والتعاون لحل قضية «الاسرى الكويتيين».

بدت هذه الصيغة معقولة ومنصفة لكل من العراق والكويت وكادت ان تشكل نقلة نوعية في العلاقات بين البلدين الشقيقين على طريق تضميد الجراح، وطي صفحة الماضي المؤلم.. ولكن بدلا من السير بخطوات حثيثة نحو التسوية والمصالحة سارت الامور في الاتجاه المعاكس تماما، بل وبدلا من التقدم الى الامام، اخذت بالتراجع خطوات الى الوراء! وبعد ان اضاع الوفد العراقي الفرصة للقبول بالصيغة التوافقية، ويساهم عمليا في قطع الطريق على الولايات المتحدة واسرائيل في الاستمرار في الهاء العرب في صراعات جانبية وابقائهم في حالة من التمزق والانقسام، وصرف نظرهم عن عدوهم الحقيقي اسرائيل، استدرك العراق بعد انتهاء مؤتمر القمة، كما نقل عن وزير خارجيته محمد سعيد الصحاف، ليعلن في عمان بان العراق لا يرفض المصالحة اذا وافقت الكويت، هذا بعد ان انفض اجتماع القمة ـ المكان والزمان المناسبين ـ اللذين كان على العراق ان يعلن موافقته فيهما، ويضيع الفرصة على كل الخصوم الذين يؤرقهم مجرد احتمال المصالحة العراقية ـ الكويتية.

هكذا ضاعت فرصة تاريخية نادرة، وفي الوقت الذي ابدى العراق استعداده لقبول المصالحة تراجعت الكويت عما كانت قد وافقت عليه اثناء اجتماع القمة، حيث اعلن النائب الاول لرئيس وزرائها ووزير خارجيتها الشيخ صباح الاحمد بأن «الورقة التي قدمتها الكويت الى القمة العربية في عمان، وتضمنت قبولا بعدد من المطالب العراقية، لم تعد قائمة».

وهكذا تتتابع فصول هذه المسرحية المؤلمة والمحزنة، وبدلا من احراز التقدم والمضي قدما الى الامام، بقي الحال على ما هو عليه، واستمر كل من العراق والكويت في تبادل المواقع والادوار في رقصة الموت والاحتضار! ففي الوقت الذي تبدي الكويت استعدادها للمصالحة يرفض العراق، وعندما يتراجع العراق عن موقفه ويبدي استعداده للمصالحة ترفض الكويت!.

وهنا لا بد من القول بكل صراحة وتجرد بأن القيادة العراقية عودت كل اصدقاء الشعب العراقي على انها تأبى إلا ان تخذل كل من يريد الخير للعراق في كل قراراتها وحتى اللحظة الاخيرة، حتى بات رد فعل صانع القرار في بغداد متوقعا ومعروفا، بحيث انه لم يخفق ولو مرة واحدة في التصرف كما يتمنى اعداء العراق والمتربصون به.

ان ظاهرة الاستدراك ورد الفعل المؤجل اضحت تشكل نمطا سلوكيا مألوفا لصانع القرار في بغداد، حيث يتمثل هذا النمط من السلوك في التراجع عما تم رفضه في البداية واعلان القبول به، ولكن ليس قبل ان يكون العراق قد دفع ثمنا باهظا ومضاعفا.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، بعد مضي عدة اشهر على اجتياح الكويت واعلان قرارات مجلس الامن الدولي بالزام العراق بالانسحاب من الكويت، ورفض صانع القرار العراقي الانصياع لتلك القرارات، نوقشت في مجلس النواب الامريكي فكرة مفادها بأن على الولايات المتحدة ان لا تقبل فقط بمجرد انسحاب العراق من الكويت، بل عليها تدمير القوة العسكرية العراقية، وكان هنالك عدد من المتحمسين لهذا الرأي الذين كان اشد ما يخشونه هو انصياع العراق للقرارات الدولية والانسحاب من الكويت من دون ان تسنح للولايات المتحدة الفرصة لتدمير قواته.

واطلق اصحاب هذا الرأي من الصهاينة وحلفاء اسرائيل على سيناريو انسحاب العراق من الكويت بـNightmare Scenario اي «السيناريو الكابوس»، لأن تحقيقه لن يمكنهم من تدمير القوة العراقية. وقد كانت هذه المناقشات مفتوحة وعلنية بحيث كان بإمكان صانع القرار في بغداد متابعتها وادراك مغزاها، وهو ان اعداء العراق كان يؤرقهم كابوس رهيب يتمثل باحتمال انسحاب العراق واضاعة الفرصة التاريخية لتدمير قواته.

وهكذا اعطى صانع القرار في بغداد لاعداء العرب والعراق الفرصة لتدمير العراق وتحطيم قوته، وحدث ما حدث من تدمير ومآس وحصار ظالم على الشعب العراقي وخسائر مادية وبشرية هائلة على دول الجوار.

والمثال الآخر هو قرار «النفط مقابل الغذاء» والذي ظل العراق يرفضه لسنوات ثم اضطر لقبوله بعد ذلك، وقس على ذلك بحيث صار من المعتاد قبول صانع القرار في بغداد ما قد رفضه بالامس.

والسؤال الذي يطرح نفسه في الوقت الراهن هو: ما العمل وكيف يمكن التوصل الى حل يجنب المنطقة مزيدا من الويلات والدمار ويحفظ عليها مواردها البشرية والاقتصادية؟.

ان الحقائق المتعلقة بميزان القوى والجغرافيا تحتم علينا قبول منطق العقل، الذي يفرض عدم تجاهل العراق مهما كانت المواقف او المشاعر تجاه نظام سياسي معين او غيره، فليس بوسعنا اختيار الجيران، واذا كان بالامكان تناسي التاريخ المشترك فليس بالامكان تجاهل حتمية الجغرافيا.

ومن ثم فعلى كل من العراق والكويت التسليم بوجوب التعايش معا ـ فهذا قدرهما وليس لأي منهما في ذلك اختيار ـ وضرورة تجاوز الماضي الأليم وفتح صفحة جديدة. وكما ان الامة العربية هي في امس الحاجة الى عراق مستقر مسالم وقوي، لانه يشكل العمق الاستراتيجي لسورية في صراعها ضد اسرائيل، ويشكل ايضا القوة الموازنة لايران التي تتصرف من منطلق الدولة الاقوى في الخليج، فإن العراق في الوقت ذاته بحاجة الى اشقائه العرب للخروج من عزلته الدولية، وتحطيم جدار الحصار المفروض عليه منذ ما يزيد عن عشر سنوات، ولذلك فعليه ان يبادر من تلقاء نفسه الى طلب المصالحة مع دولة الكويت والمملكة العربية السعودية، ليضيع بذلك الفرصة على اسرائيل وحلفائها في ابقاء العرب في حالة من الضعف والانقسام.

نتمنى ان لا يسيء صانع القرار السياسي في بغداد تفسير المبادرات الطيبة ـ والتي نؤيدها ـ التي قامت بها بعض دول مجلس التعاون كمحاولة منها لمد الجسور نحو العراق على انها تمثل خروجا عن الاجماع الخليجي في مجلس التعاون، لان هذا ينبع اساسا من احساس صادق بالمسؤولية اتجاه العراق وشعب العراق ويؤكد في نفس الوقت على ان الاعتداء على اي دولة من دول المجلس هو بمثابة اعتداء على دوله جميعا.

واخيرا فإن على الدول العربية الاخرى تشجيع الشقيقين العراق والكويت على انهاء «الحالة» المؤلمة، وايجاد المناخ الملائم للوصول الى الحل النهائي لتسوية خلافاتهما. ان تحقيق ذلك هو ما يتمناه كل مواطن عربي مسلم محب لامته، وهو في نفس الوقت «الكابوس المرعب» لكل اعداء الامة العربية والاسلامية. دعوة اوجهها لتصدير الكابوس لمن يستحقونه.

* كاتب من السعودية