السعودية والقضية الفلسطينية

TT

تشهد الرياض هذه الأيام ندوة عن المملكة العربية السعودية والقضية الفلسطينية تم تنظيمها ضمن البرنامج الثقافي لدارة الملك عبد العزيز. ولقد مرت القضية الفلسطينية بمجموعة من المراحل وعرفت تداخلاً كبيراً منذ بدايتها بين بعديها العربي والفلسطيني. فمنذ عام 1948م اصبحت دول المواجهة مع اسرائيل (مصر وسورية والاردن ولبنان) عنصراً رئيسياً ومباشراً في القضية الفلسطينية. واقتصر الدور الفلسطيني بعد ذلك على الاهتمام بقضية اللاجئين الفلسطينيين والمشاكل التي تواجههم. واما قرارات المواجهة مع اسرائيل فلقد اصبحت بعد عام 1948م بيد الدول العربية وخاصة دول المواجهة. لكن الصورة بدأت تتغير مرة ثانية منذ الستينات الميلادية حيث اصبحت القيادات الفلسطينية الوطنية تلعب من جديد دوراً مهماً في عملية المواجهة مع اسرائيل غير أن دورها الجديد بقي لسنوات طويلة مرتبطاً بدور دول المواجهة وتابعاً له.

وعلى الرغم من أن السعودية ليست من دول المواجهة فإنها لعبت دوراً رئيسياً في القضية الفلسطينية وفي مواجهة العدو الصهيوني منذ السنوات الأولى للمشكلة. ولكن السعودية حرصت منذ البداية على ان يكون العنصر الفلسطيني هو العنصر الرئيسي في المواجهة مع تزويده بالحد الاقصى من كل انواع الدعم الاقتصادي والعسكري والسياسي. كانت هذه هي نظرة الملك عبد العزيز يرحمه اللّه، والتي تجسدت بعد ذلك في السياسة السعودية تجاه القضية الفلسطينية، حيث تبنت مبدأ عدم التدخل في شؤون القيادة الفلسطينية ودعمها في ما تصل اليه من قرارات ومواقف مع ضمان مراعاتها للبعد الاسلامي لمسألة القدس. هذا هو المبدأ الاساسي أو الخاصية العامة التي حكمت علاقة السعودية بالقضية الفلسطينية. ولقد تضمنت هذه العلاقة مجموعة واسعة من الجهود التي بذلتها السعودية تجاه هذه القضية. ومن اهمها:

* جهاد المال: ان الدعم المالي الذي التزمت السعودية بتقديمه لمنظمة التحرير الفلسطينية ولدول المواجهة العربية هو نوع من انواع الجهاد التي ذكرها اللّه في القرآن الكريم. فلقد ربط اللّه سبحانه وتعالى في اكثر من آية من آيات القرآن الكريم جهاد المال بجهاد النفس وقدم احياناً الأول على الثاني. فلقد قال تعالى: (وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم) [التوبة88]، (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) [التوبة 41]، (أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم) [التوبة 44].

ويأتي الدعم المالي السعودي من مصادر رسمية وشعبية ويستخدم لاغراض عسكرية ومدنية وسياسية.

* التأكيد على البعد الاسلامي للقضية الفلسطينية: منذ وقوع حادث احراق المسجد الأقصى سعت المملكة إلى ابراز البعد الإسلامي للقضية الفلسطينية اضافة إلى بعديها الفلسطيني والعربي. ولقد بذلت المملكة جهوداً خاصة للحصول على دعم الدول الإسلامية لقضية فلسطين. وعلى الرغم من ان بعض التيارات القومية واليسارية العربية في ذلك الوقت قد عارضت توجه المملكة نحو الدول الإسلامية، واتهمتها بمحاولة اسلمة القضية الفلسطينية، فإنه من الواضح الآن ان البعد الاسلامي الذي اضافته المملكة للقضية الفلسطينية قد اعطى هذه القضية اسس قوة وعناصر دعم جديدة لم تكن متوفرة في السابق.

* الدور السعودي الدولي: لقد تمكنت المملكة في ضوء اهميتها الاقتصادية والاستراتيجية البترولية العالمية من لعب دور دولي كبير لدعم القضية الفلسطينية. ولقد ساهم قادة المملكة العربية السعودية منذ الملك عبد العزيز وحتى الوقت الحاضر في التدخل مع الرؤساء الامريكيين ومحاولة التأثير على سياساتهم في الشرق الأوسط. ومن ذلك مثلاً جهود الملك عبد العزيز مع الرئيس روزفلت وجهود الملك سعود مع الرئيس ايزنهاور وجهود الملك فيصل مع الرئيس جونسون وجهود خادم الحرمين الشريفين مع الرئيسين كارتر وريغن. ولقد كادت جهود خادم الحرمين الشريفين في هذا الأمر ان تنجح في التوصل مع امريكا إلى وضع اسس حل عادل وشامل للقضية الفلسطينية لولا اصطدامها ببعض مشاكل واقع السياسة الامريكية وواقع السياسة العربية.

* الوساطة العربية: ولقد مرت القضية الفلسطينية باوقات عصيبة تعلقت بمشاكل السياسة العربية وارتبطت بشكل خاص بظروف الحرب الاهلية في لبنان وباختلاف مواقف القيادة الفلسطينية احياناً مع مواقف قيادات دول المواجهة. ولقد وصلت هذه الاختلافات والمشاكل احياناً إلى درجة كبيرة من الحدة والتأزم وأدت إلى وجود توتر كبير بين دول المواجهة أو بين احداها من طرف والقيادة الفلسطينية من طرف آخر وبالشكل الذي هدد بترك آثار سلبية كبيرة على القضية الفلسطينية. ولقد كانت المملكة دائماً تبذل مساعيها الحميدة لاحتواء هذه الاختلافات ولتلافي التوتر بين الاشقاء. ولعبت المملكة في هذا الخصوص دوراً مهماً في الوساطة بين الاردن والقيادة الفلسطينية في عام 1970م كما سعت لتقريب وجهات نظر مصر وسورية وكذلك الاردن وسورية في الفترة التي سبقت واعقبت حرب اكتوبر 1973م. ولكن اهمية الوساطة السعودية والتي لعب فيها خادم الحرمين الشريفين دوراً شخصياً متميزاً اضافة إلى دور الملك خالد يرحمه اللّه تمثلت بشكل خاص في نجاح المملكة في تسوية الخلاف الذي نشأ عام 1976م بين سورية من طرف وبين مصر والقيادة الفلسطينية من طرف آخر وارتبط بظروف الحرب الاهلية اللبنانية وبدخول القوات السورية إلى لبنان. فلقد وجدت القوات الفلسطينية في لبنان نفسها طرفاً في الحرب الأهلية اللبنانية وعندما تدخلت القوات السورية في لبنان لوقف الحرب الاهلية اللبنانية نشأ عن ذلك وقوع مواجهة عسكرية لم يكن احد يبحث عنها أو يريدها بين القوات السورية والقوات الفلسطينية، ولقد كانت تلك الاحداث في الحقيقة من اكبر الازمات التي عصفت بالقضية الفلسطينية على الساحة العربية، ولكن المملكة العربية السعودية تمكنت بفضل جهود الملك خالد وجهود خادم الحرمين الشريفين الذي كان ولياً للعهد عندئذ من احتواء هذه الازمة. ففي اواخر اكتوبر عام 1976م تم عقد قمة رباعية في السعودية جمعت القيادات المصرية والسورية والفلسطينية والسعودية وادت محادثات قادة الدول الاربع والوساطة السعودية التي تخللتها إلى التوصل لاتفاق لوقف سفك الدماء في لبنان. وعندما اجتاحت القوات الاسرائيلية لبنان في عام 1982م بذلت المملكة العربية السعودية جهوداً دولية كبيرة في امريكا واوربا لضمان سلامة القوات الفلسطينية التي اعيد انتشارها خارج لبنان والتي لم تخرج وللّه الحمد ذليلة وذلك بالرغم من انتصار القوات الاسرائيلية عليها ولكنها خرجت في ضوء الضمانات الدولية حاملة بنادقها على اكتافها ورافعة اعلامها في السماء ويقول بعض المسؤولين الفلسطينيين في وصف هذه الحادثة بأنه لولا جهود خادم الحرمين الشريفين لاختلف الوضع تماماً ولما تمكنت القوات الفلسطينية من الخروج سالمة من لبنان.

* دور الدبلوماسية السعودية: تقع القضية الفلسطينية في قمة اولويات وزارة الخارجية السعودية ويخضع ملفها لاشراف ومتابعة خاصة من وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل وكبار موظفي الوزارة. ويمارس الدبلوماسيون السعوديون بصفة عامة جهوداً مستمرة لنصرة القضية الفلسطينية، ويقول في هذا الخصوص هيرمن إليتز سفير الولايات المتحدة الاميركية في السعودية في النصف الأول من الستينات الميلادية في بحث قدمه في ندوة نظمها المعهد الملكي البريطاني قبل عدة سنوات عن المملكة العربية السعودية بأن الدبلوماسيين السعوديين هم من اكثر الدبلوماسيين العرب حرصاً على مناقشة القضية الفلسطينية في أي فرصة أو مناسبة تتاح لهم. واستشهد السفير بمسألة ارتبطت بسنوات عمله في المملكة، وقال بأن هناك خطاباً قديماً من الرئيس روزفلت إلى الملك عبد العزيز يتعهد فيه روزفلت بعدم تجاوز عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين حداً معيناً. ويضيف السفير إليتز بان موظفي وزارة الخارجية السعودية اثناء عمله سفيراً لامريكا في المملكة كانوا يحضرون معهم نسخة من هذا الخطاب عند كل مناسبة ترتبط بمناقشة القضية الفلسطينية ويشيرون إلى عدم التزام امريكا بتعهد الرئيس روزفلت، ولقد كنا ـ كما يقول السفير ـ نحاول ان نوضح لهم بان هذا التعهد يعكس نظرة الرئيس روزفلت للامر عندئذ ولا يتضمن في الوقت الحاضر أي التزام رسمي قانوني للحكومة الامريكية تجاه الحكومة السعودية ولا يمكن تنفيذه ولكن موظفي وزارة الخارجية السعودية كانوا يحضرون معهم دائماً نسخة من هذا الخطاب في كل مرة يناقشون بها القضية الفلسطينية مع مسؤولين امريكيين حتى انني تمنيت ـ كما اضاف السفير ـ لو ان صورة هذا الخطاب لم تكن موجودة معهم.

* كاتب ومحلل سياسي سعودي