لأنه ثرثار فالتاريخ يعيد نفسه

TT

التجربة الأليمة التي يعانيها شعب العراق، قد تجرعتها مصر الفرعونية من ثلاثين قرنا، ففي نهاية الأسرة الخامسة ضعفت الحكومة المركزية، فانفصلت عنها كل الولايات والمدن، وراحت كل واحدة تدبر أمرها وتعلن استقلالها، وتعطي لحكامها ألقاب الملوك والأمراء، وما حدث في مصر في ذلك الوقت، هو أكبر درس في التاريخ لصورة بشعة من صور ضعف الحكم وهوان المحكوم.

وتكرر ذلك بصورة مختلفة أيام الملك شارل الأول في ألمانيا، عندما تفككت الدولة إلى إمارات ودوقيات، والسبب أن الحكومة المركزية أصبحت عاجزة تماما، وتسلطت عليها الهيئات المدنية والعائلات والمذاهب والعصبيات.

كل هذا وأكثر يعانيه اليوم شعب العراق، أبناء أغنى دولة عربية.. بحيرات من البترول ونهران وارض زراعية وتاريخ وحضارة، والذي حدث في العراق مفروض على الشعب دينا وسياسة، فأميركا هي التي مزقت وقطعت وأطلقت الشعب على نفسه، والنتيجة ليست بعد، فالذي نراه الآن ليس إلا المراحل الأولى لتفتيت الحكومات الإقليمية والمركزية، وليس صحيحا أن أميركا قد فشلت، وإنما الذي أرادته أميركا قد تحقق وسوف يبقى طويلا، ولن تختلف حكومة بوش اليوم عن حكومة هيلاري كلينتون غدا.

قال لي الرئيس السادات ونشرته في حينه: إنه دخل مفاوضات مع إسرائيل وأميركا في كامب ديفيد، لا عنده سلاح وإنما سلاح روسي قديم ولا عنده فلوس ولا بترول ولا لوبي في أميركا، لا شيء، إلا الرغبة القوية في السلام ورغبة الشعب الإسرائيلي أيضا في السلام، ويوم قال السادات للأمهات في إسرائيل: لا أريد لأولادكن أن يموتوا ولا أزواجكن، تظاهرت النساء ورحن يقبلن يديه في شوارع حيفا. إن لم تكن قد رأيت هذا في التليفزيون فقد رأيته أنا في مناسبات كثيرة! وإسرائيل هي التي ضربت المفاعل النووي العراقي ـ ازراك ـ الفرنسي الصنع. وإسرائيل من الممكن أن تفوضها أميركا في ضرب المفاعل النووي الإيراني.

إن أميركا في السياسة الخارجية تلميذ مخلص مطيع للسياسة البريطانية العريقة التي كان ولا يزال شعارها: إذا أردت أن تسود فعليك أن تفرق بين الشعوب وبين فصائل الشعب الواحد، فعلت بريطانيا ذلك، والأميركان كذلك يفعلون!

والتاريخ لأنه شيخ ثرثار فهو يعيد نفسه، ولأننا ننسى فهو يكرر نفسه، ولأننا لا نتعلم، فقد علمنا التاريخ ألا نتعلم منه!