ديكتاتورية ماما

TT

ديكتاتورية امي رحمها الله، كانت ترعبني، خاصة اذا حاولت ان اخالف لها امرا. كنت اذا رأيت الخط الذي يظهر بين حاجبيها حين تتغير نظرتها السمحة الى عبوس، وتقول: «والله ما عاد في الخن ريش».. ادركت ان محاولتي لاقناعها بوجهة نظري باءت بالفشل، وان ما امرت به نافذ لا محالة.

ولمن لم يسمع بهذا المثل، اقول إن الخن هو العش الذي تبنيه اناث الطيور بصبر طويل لكي تحتضن فيه صغارها حين يفقس البيض، وتطير منه وتعود اليه وفي منقارها غذاء الصغار الى ان تظهر على اجنحتهم الضئيلة بدايات الزغب، ويتحول الزغب الى ريش، فتشتد جرأة الصغار وتجرب حظها في الطيران فيخلو الخن من الريش.

أعترف بأنني تركت الخن حين قوي مني الجناح، واعترف بأنني حاولت إلغاء الديكتاتورية من امومتي حين صرت اما.

أخيراً وقع بيني وبين ابنتي خلاف في الرأي على قرار يمكن ان تتأثر به حياتها، وبما انها تركت الخن شابة متعلمة عاملة ومستقلة، أطلت من مكامنها رغبتي في ان اكون أماً مختلفة عما كانت عليه امي، فقلت لابنتي.. أنا اختلف معك، لكن سأكلمك كصديقة لا كأم، وعليك ان تختاري الاصلح لك، لأن كل ما تفعلينه الآن يعود عليك وحدك بالنتائج.

وبدلا من ان تنفرج اساريرها عقدت ما بين حاجبيها، وقالت لي شكرا لك، لكن تذكري ان صديقاتي كثيرات، اما انت فأمي الوحيدة.

افقت.. واستوعبت ما تطلبه مني، وراجعت حساباتي. فأنا حقا امها لا صديقتها، ولا يجوز ان اتنازل عن حقي في توجيهها لأن الديكتاتورية اصبحت كلمة سيئة السمعة. الكل يخطب ود الديمقراطية لأنها موضة، كلنا يريد ان يبدو طيبا ومهادنا وحساسا، وليس هذا عيبا في الحياة العامة، لكن حين نطبق تلك الميول على العلاقة بأولادنا نكتشف أن المكسب زهيد والخسارة كبيرة.

حين يتخلى والد عن الحسم والتوجيه، يتخلى عنه لأنه يخاف على نفسه اكثر من خوفه على ولده. تأثرنا بفكر العصر الذي يوحي بأن كل انسان بالغ يحتاج الى علاج يخلصة من آثار ديكتاتورية الوالدين، نبذنا الحسم واصبحنا نؤثر التفاوض حتي لا ينظر احدنا في اعماقه فيطالعه وجه ديكتاتور.

لكن ولدك لا يعجبه ان تتفاوض معه، قد لا يستسيغ ان تبدو في نظره متشددا، لكن صلابة رأيك تشعره بالامان. ليس المهم ان ينعتك بالديكتاتور، لكن المهم هو كيف ومتى والى اي مدى توظف ديكتاتوريتك كوالد لمصلحة ولدك وليس لرغبة متأصلة في التفرد بالرأي؟.

مرّ بذهني شريط الذكريات، واطمأن قلبي الى ان كلمة (لا) ليست كلمة سيئة السمعة في جميع الاحوال، فكم قلت (لا) لطفلتي وهي تلح وتلح وتلح ان اسمح لها بالمبيت لدى صديقة، سألتها مرة لم لا تأتي صديقتك للمبيت معك، فقالت بأن ام صديقتها لا توافق، ثم اهتديت الى افضل الحلول. دعوت صديقتها الى السينما واشتريت لكل منهما حلوى وحملتهما الى البيت بعد العرض لمدة ساعة للعب والسمر، ثم اوصلت الصديقة سالمة الى بيتها وباتت كل منهما في بيتها راضية.

ومرّ الزمن وكبرت البنت وتركت الخن، ثم جاءت تطلب ديكتاتوريتي.

بعد المواجهة قبلت برأيي واختارت القرار السليم، واكتشفت انا انني لا اختلف كثيرا عن امي، وإن جاء الاكتشاف متأخرا اكثر من ربع قرن.