مغزى الحديث عن «حديثة»

TT

هناك أخبار تخلّف وراءها إشارات استفهام أكثر مما تقدّم أجوبة عمّا يجري وأسباب ما يجري لسنوات. فبعد التأكّد من خبر مقتل أبو مصعب الزرقاوي، على سبيل المثال، كان التعليق على صورته يتحرك وكأنه وحيد في البلاد «بأنه يسير حراً طليقاً دون الأخذ بعين الاعتبار أنه في زمن الأقمار الاصطناعية التي ترصد كلّ شاردة وواردة، وتنقل صورة واضحة عمّا يجري على الأرض». والسؤال الذي لا يمكن للعقل البشري تجنبه هو: أوَ لم تكن هذه الأقمار الاصطناعية موجودة منذ سنوات؟، أوَ لم يكن ممكناً إلقاء القبض عليه قبل زمن أم أن للتوقيت حساباته الخاصة أيضاً التي تندرج ضمن الأهداف السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية المبتغاة؟ والتوقيت أيضاً هو العامل الأهم في إثارة ضجة في الأسبوع الأخير حول مجزرة «حديثة» والتي حدثت قبل عدّة أشهر أولاً، والتي كانت واحدة من عشرات أو مئات المجازر التي ارتكبت بحقّ العراقيين المدنيين الأبرياء الذين وجدوا أنفسهم محاصرين بين مهزلة محاكمة صدّام وبين فرق موت تتخبّط في مدنهم وقراهم فتحصد الآلاف منهم دون حساب ودون أن يتوقف أحد ليسأل السؤال الجوهري والضروري: من يقوم بأعمال القتل الطائفي؟ ومن يستهدف العلماء والأطباء والخبرات العراقية النادرة؟ وهل فعلاً من المستحيل الغوص إلى أعماق هذه الأسئلة، أم أنّ التوقيت مرةً أخرى غير مناسب اليوم! وأنّ المقاصد السياسية قد تملي إثارة بعض هذه الأسئلة حول الجرائم ليس احتراماً لمن قضوا فيها، وإنّما درءاً لمخاطر انتخابية أو طمعاً في تحسين الصورة وامتصاص النّقمة أو كسب بعض الجولات الحزبية، أو لتثبيت مقولة ونفي أخرى.

والأخبار التي وردتنا عن «حديثة» لا توحي بكلّ ذلك الاحترام لحياة البشر في العراق، حيث كان أحدها: «تمّ إعفاء الضبّاط من واجباتهم بعد قتل 24 عراقياً»، وثانيها: «لن تتأثر شعبية بوش بالمجزرة» وتشير كلّ التقارير إلى أنّ الجيش الأمريكي في العراق كان يتصرّف كما يشاء في المدن والقرى، ويعالج الأمور كما يرتأي دون وجود قواعد أو ضوابط أخلاقية، إذ أنّه من المؤلم أن نقرأ اليوم وبعد ثلاث سنوات من المجازر في العراق أنّ الأوامر قد صدرت لإخضاع القوات الأمريكية «لتدريب أخلاقي بعد مقتل مدنيين عراقيين» ومن يعلم كم من المجازر ارتُكبت في العراق، من مجزرة العرس في مدينة القائم إلى مجازر الفلّوجة وبعقوبة، إلى تفجيرات المساجد والكنائس التي لم تُنتهك حرماتها في تاريخ العراق، إلى تعذيب وقتل وإغراق شبّان تمّ تصويرهم بالصدفة واقشعرّت لهم أبدان الإنسانية، إلى قتل النساء الحوامل، والإعلاميين والإعلاميات. وقد يكون سبب التحرك للبحث في أسباب مجزرة «حديثة» هو ما قاله الضابط الأمريكي المتقاعد باري ماكفري، والذي لعب دوراً قيادياً في الحرب على العراق حين أخبر مجلة التايم أنّ «قواتنا لا تستطيع الاستمرار على هذا المنوال، وأخشى أن يكون الشعب الأمريكي قد بدأ يتخلّى عن هذه الحرب». قد يكون هذا باختصار ما يُفسّر توقيت البحث في مجزرة «حديثة» والتخلّص من الزرقاوي لإعطاء إشارات الحرص الأخلاقي والانتصار العسكري لجمهور أمريكي أصبح معظمه يقف ضدّ حربٍ برهنت أنها ظالمة ومأساوية بحقّ شعب وبلد وهوية وتاريخ. إنّ ثلاث سنوات من قتل عشوائي في العراق يحتاج إلى سنوات من البحث والتقصّي دون إغفال أنّ المسؤولية الأساسية تقع على عاتق من شنّ حرباً على بلد آمن خارج إطار الشرعية الدولية ولأسباب أثبت الزمن عدم صحتها، فما هي الأسباب الحقيقية وراء الحرب على العراق؟ هذا هو السؤال الذي يتوجب طرحه اليوم، وليس اختيار تفصيل صغير من آلاف التفاصيل التي تستحقّ التحقيق والدراسة وتحميل المسؤولية لمن يجب أن يتحمّلها. هل يمكن أن تصبح مجزرة «حديثة» و«الإسحاقيّ» وغيرها نقطة تحوّل في تاريخ الحرب على العراق كما كانت مجزرة «ماي لاي» نقطة تحوّل في الحرب على فييتنام؟

لو كان الهدف سياسةً جديدةً حيال ضحايا الحرب على العراق والذين لا يقتصرون على العراقيين فقط، لما تزامن البحث في مجزرة «حديثة» مع قرار وزارة الدفاع الأمريكي «البنتاغون» أن تحذف فقرة من ميثاق جنيف تحظر علناً «اللجوء إلى المعاملة المذلّة والمسيئة للمعتقلين»، وأفادت بعض المصادر أنّ السياسة الأمريكية قد تضطرّ في حالات أخرى إلى «الابتعاد عن التمسّك الصارم بمعايير حقوق الإنسان الدولية». وتزامن هذا أيضاً مع إيقاف عشرات من معتقلي غوانتانامو وإضرابهم عن الطعام، بينما يستمرّ 18 منهم في الإضراب. كما تزامن هذا أيضاً مع تقرير ديك مارتي، رئيس مجلس اللجنة الأوروبية للشؤون القانونية وحقوق الإنسان، والذي يتّهم واشنطن باتّباع نهجٍ قانوني غريب تماماً عن التقليد الأوروبي بواسطة ترتيب نقل «المشتبه بهم» إلى أمكنة غير قانونية، وأنّ أربع عشرة دولة أوروبية قد تعاونت مع جهاز المخابرات السرّية الأمريكية لنقل هؤلاء المشتبه بهم بين البلدان والمعتقلات. وقد أطلق مارتي على هذه العمليات «شبكة العنكبوت الدولية التي تنقل المشتبه بهم وتعاملهم كمجرمين وفق تقنيات وتكتيكات تمّ تطويرها كردّة فعل على التهديدات الجديدة للحرب». كما تزامنت هذه الأحداث مع مداهمة الشرطة البريطانية لمنازل مسلمين في شرقي لندن أدّت إلى اعتقال أخَوين مسلمين بعد إصابة أحدهما برصاص الشرطة، ولم تسفر عن العثور على أدلّة على مؤامرة باستخدام أسلحة كيميائية، هذا هو السبب الذي قالت الشرطة إنه كان وراء المداهمة. والسؤال هو: من قدّم هذه المعلومات الاستخباراتية الكاذبة لشرطة لندن عن هؤلاء المسلمين؟ ومن يثير الشكوك بين الدول التي يقطنها المسلمون والجاليات الإسلامية؟ في ذات التوقيت لمداهمة شرق لندن والتي أثبتت كذب المعلومات الاستخباراتية، تعرّض مسجد في تورنتو الكندية للتخريب على خلفية توقيف شبّان «يُشتبه في أنهم كانوا يعدّون لسلسة اعتداءات إرهابية» حسب ما أعلنت شرطة المدينة. والجريمة التي ارتكبها هؤلاء الشبّان هي أنّهم يذهبون بانتظام لأداء فريضة الصلاة في الجامع، وأكّد أفراد أُسر المشتبه بهم أنّ الدوافع لتلك المزاعم هي الشكوك تجاه المسلمين معربين عن ثقتهم أنّ التحقيق لن يسفر عن شيء لأنّ هدف العملية هو إثارة البغضاء حيال الجاليات الإسلامية، تماماً كما اكتشفت اسكتلانديارد البريطانية أنها اعتمدت تقارير مغلوطة عن الهجوم! كما تزامن كلّ هذا مع نشر الروائي جون إبديك رواية بعنوان «إرهابي» وبطلها هو شاب عربي أمريكي!

هل من قبيل المصادفة البحتة أنّ الحرب على العراق قد شُنّت نتيجة تقارير مغلوطة عن أسلحة الدمار الشامل وأنّ الجاليات الإسلامية تتعرض لحملات تفتيش واعتقال مكارتية في كلّ أنحاء العالم نتيجة معلومات عن «مشتبه بهم» تثبت التحقيقات في معظم الحالات كذبها؟ ومن هي المصادر التي أبلغت واشنطن بعملية تورنتو قبل تنفيذها؟ أهي ذات المصادر التي أبلغت عن وجود أسلحة دمار شامل في العراق؟ أم هي ذات المصادر التي خلقت المسوّغات لقانون هجرة فرنسية جديد يجعل الطريق إلى الإليزيه معبّداً بمأساة المسلمين في فرنسا؟ وفي أعقاب كلّ هذا وذاك نقرأ خبراً جانبياً مفاده تبرئة ثلاثة جنود بريطانيين من قتل شاب عراقي رموا به إلى النهر، وسبّبوا موته غرقاً أمام أعين المشاهدين.

لم تعد تستقيم بعد كلّ هذه الأحداث الثقة بالقوانين الغربية والمحاكم حين يتعلّق الأمر بحياة المسلمين أو كرامتهم. واقع الحال في «الحديثة» و«الإسحاقيّ» ولندن وترونتو وواشنطن هو أنّ هناك جهات حوّلت المسلمين جميعاً إلى مشتبه بهم واستباحت مدنهم وحياتهم وكرامتهم، وتقوم بين الحين والآخر بعمليات تجميلية كالبحث في مجزرة «الحديثة» لأغراض سياسية لا علاقة للضحايا بها بينما تستمرّ القوانين في الغرب في الصدور لإذكاء نار الكراهية ضدّ المسلمين والعرب في الغرب واعتبارهم جميعاً مشتبهاً بهم وتبرير حملات المداهمة والاعتقال ضدّهم، وخلق شبكة من التعاون الدولي ضدّهم، فهل أصبح القانون في الغرب يحكم على المشتبه بهم بالترحيل والسجن والاعتقال وأحياناً القتل المتعمّد قبل توجيه سؤال واحد لهم؟ أم أنّ هذا القانون خاص بالعرب والمسلمين؟ إذا كان الأمر كذلك فهل يحقّ لنا أن نسمّي كلّ ما نشهده ونعايشه: العنصرية الجديدة ضدّ العرب والمسلمين والتي تتلخص أهدافها فيما طرحه الجنرال الإسرائيلي غيورا آيلاند من خلق دولة فلسطينية تمتدّ على مناطق مصرية وأردنية، وهل هذا يعني أنّ هدف الحرب على العراق كان ابتلاع فلسطين ووضع ضحايا هذه الحرب والحروب التي سبقتها في خانة «المتهمين» في كلّ مكان لردع الرأي العام العالمي من التعاطي معهم أو الاستماع إلى وجهة نظرهم والتي تقلب المفهوم السائد عنهم رأساً على عقب؟ وهل مغزى الحديث عن «حديثة» هو تجميل الصورة وكسب جولة أخرى في الحرب الحقيقية القائمة ضدّ العرب والمسلمين في الغرب والشرق؟