من انتخابات.. إلى استفتاء.. إلى انتخابات

TT

.. وما أدراك ما الاستفتاء. جزء ضئيل من الشعب الفلسطيني، يشمل مَنْ يحق لهم التصويت من فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، سيدعى إلى الإدلاء بـ«رأيه» في الشروط والمطالب السياسية والاستراتيجية «الدولية» لإنهاء، أو للبدء في إنهاء، الحصار المالي (والاقتصادي والمعيشي) الدولي الذي يتعرَّض له منذ نحو ثلاثة أشهر، ولتجنيبه، بالتالي، كارثة إنسانية وشيكة. وإذا كانت تلك الشروط والمطالب هي في منزلة «القلب» من الجواب عن سؤال «ما العمل؟» فإن «وثيقة الأسرى»، التي، في حد ذاتها، لا تلبي كل الشروط والمطالب «الدولية» لإنهاء الحصار المالي، ولا تلبي الجوهري من شروط ومطالب اولمرت لمفاوضة الفلسطينيين، هي «القالب». وقد بدأت «حماس»، حكومة وحركة، إظهار اعتراضها على الاستفتاء بالتشكيك في أهلية وأهمية «الوثيقة» التي سيستفتى أولئك الفلسطينيون فيها، فرئيس حكومة «حماس» إسماعيل هنية قال إن «الوثيقة» خرجت من جزء من سجن هو سجن «هدريم»، وإن بت قضايا سياسية استراتيجية كالتي تضمنتها هو أمر يعود إلى مرجعيات فلسطينية عديدة.

ومع تأييدنا التام لخيار «الحل عبر الاستفتاء» نؤكِّد، ويجب أن نؤكِّد، أن نتائجه لا تُلزِم الشعب الفلسطيني بأسره، فاللاجئون الفلسطينيون، أي غالبية الشعب الفلسطيني، لم يُستفتوا، حتى الآن، في تلك القضايا التي تضمنتها «وثيقة الأسرى»، ولا في حل مشكلتهم، شكلا ومحتوى. وهم ينتظرون أخذ رأيهم، عبر استفتاء شعبي، في أي اتفاق لحل نهائي لمشكلتهم تتوصل إليه السلطة الفلسطينية (أو منظمة التحرير الفلسطينية) مع إسرائيل.

من أين يستمد الاستفتاء على «وثيقة الأسرى» شرعيته السياسية؟ إذا ما أردنا إجابة يُسمح عبرها للحقيقة بالنطق، نقول إنه يستمدها من «نتائج وعواقب» الحصار المالي الدولي للفلسطينيين، ومضي حكومة اولمرت قدما في تنفيذ مزيد من حلول إسرائيلية منفردة، تقوم على مزيد من التأييد الدولي لزعمها أن الفلسطينيين عاجزون عن أن يكونوا شريكا لإسرائيل في مفاوضات سياسية تؤدي إلى حل نهائي وفق «خريطة الطريق». إنه يستمدها من «نتائج وعواقب» ضغوط إسرائيلية ودولية لا قبل للفلسطينيين بالبقاء عرضة لها، وتضطرهم إلى فهم «السياسة» على أنها «الضرورات التي تبيح المحظورات». ولا ريب في أن الإخضاع الدولي للفلسطينيين لمبدأ كهذا يعدل في شرعية نتائجه شرعية اعتراف انْتُزِع من «متَّهم»، عبر التعذيب الجسدي والنفسي، بـ«ذنب» لم يرتكبه.

الاستفتاء في هذه الحال، أو في هذا المناخ، إنما يشبه أن تدعو الفلسطينيين إلى أن يقبلوا هذا وذاك وذلك من أشياء لا يمكنهم قبولها وهم «أحرار» في سبيل أن يدرأوا عن أنفسهم مزيدا من الجوع، والفقر، والاقتتال، ومن تضاؤل الوزن الدولي والعربي لقضيتهم القومية، فهل يرفض الفلسطينيون أم يقبلوا؟ مبدئيا، ينبغي لهم أن يرفضوا، ولكن، سياسيا، ينبغي لرفضهم أن يأتي بنتائج تسمح لهم بالتحرر من تلك الضغوط، فالصلاة وحدها لا تكفي لدرء خطر صاعقة توشك أن تنقض على المصلي.

نعلم أن ثلاثة أشهر من عمر حكومة لا تكفي للحكم لها أو عليها، ولكن هذا يصح إذا كانت الثلاثة أشهر تلك من زمن عادي، أي من زمن غير الزمن الفلسطيني حيث اليوم الواحد يعدل ألف سنة. في تلك الأشهر الثلاثة تحدى الواقع حكومة «حماس» على أن تزاوج مزاوجة مجدية، بمعيار المصلحة الفلسطينية (الواقعية) العامة، بين السلطة والمقاومة، بين خيار «الحل عبر التفاوض السياسي» وخيار «الحل عبر المقاومة العسكرية وغير العسكرية». تحداها على أن تجمع، عربيا وإسلاميا، ما يكفي من المال البديل، وأن تجيء به إلى الفلسطينيين، وإلى الموظفين الحكوميين منهم على وجه الخصوص. وتحداها على أن تفي بوعدها بتفاوض سياسي من نمط جديد، يقوم على الاستمساك بـ«الثوابت»، ورفض منطق «التنازل المجاني».. وعلى أن تضطر إسرائيل إلى قبول الحل الذي اقترحته عليها والذي لا يتعدى ثمنه الفلسطيني هدنة تستمر خمس أو عشر سنوات. أما القوى المتحكمة في الواقع الفلسطيني فتحدت حكومة «حماس» على أن تنجح في مواجهة ذلك التحدي.

ونعلم أن احترام الخيار الديمقراطي للفلسطينيين يملي علينا ترك حكومة «حماس» تستمر زمنا أطول في سعيها إلى إحراز النجاح الذي تريد، وجعلها بمنأى عن ضغوط داخلية كمثل ضغط الاستفتاء، ولكن هل لموقف كهذا أن يدرأ عن الفلسطينيين خطر مزيد من الجوع، والفقر، والاقتتال، والحل الإسرائيلي المنفرد؟ الإجابة ليست بـ«نظرية». إنها عملية في المقام الأول؛ وكل ما نراه إنما يقيم الدليل العملي على أن كارثة إنسانية وسياسية تحدق بالفلسطينيين من كل حدب وصوب، وعلى أن «الموقف السليم» هو الموقف الذي من شأنه أن يلبي حاجتهم المتزايدة إلى اجتنابها؛ ولا بد للاستفتاء من يؤسس، بنتائجه، لمثل هذا الموقف.

لقد وقفت «حماس» من «وثيقة الأسرى» مواقف تشدِّد الحاجة إلى استفتاء شعبي يتمخض عن نتائج قد يتمكن الفلسطينيون عبرها من اجتناب تلك الكارثة التي من الوهم الخالص والقاتل أن يستصغر شأنها الفلسطينيون. وأحسب أن لـ«حماس» حقا لا ريب فيه في أن تقف تلك المواقف من «وثيقة الأسرى»، وفي أن تظل مستمسكة ببرنامجها السياسي إلى أن ترى غير ذلك. كما أن من حقها أن تقاطع الاستفتاء، وأن تدعو إلى مقاطعته. على أن حقها هذا وحقها ذاك لا يسوِّغان لها أن تعلن رفضها قبول واحترام نتائج الاستفتاء، فالاستفتاء الشعبي، المستوفي لشروطه الديمقراطية، إنما يستمد شرعيته من ذاته، ويمنح نتائجه شرعية لا تعلوها شرعية. وإني لا أجد منطقا في قول من قبيل إن القانون الدولي لا يجيز إجراء استفتاء في الأرض الفلسطينية، فمن أجاز لنفسه المشاركة في انتخابات المجلس التشريعي، وفي فهم نتائجها على أنها استفتاء على برنامجه السياسي، لا يجوز له أن يقول قولا كذاك!

هذا الموقف لـ«حماس» من الاستفتاء الشعبي ليس بالموقف السليم؛ وكان ممكنا أن تقف موقفا سليما بأن تعلن أنها تؤيِّد استفتاء على «وثيقة الأسرى» يسمح لمن يحق له التصويت بأن يذهب إلى صندوق الاقتراع ليقول «أنا مع الوثيقة»، أو «أنا ضد الوثيقة»، أو «أنا مقاطِع للاستفتاء». والقول الثالث ليس بالقول غير المنطقي في حقيقته، فالفلسطينيون يحتاجون إلى معرفة الحجم السياسي الفعلي والرسمي للقائلين بالمقاطعة؛ ولا يمكن معرفة ذلك على خير وجه إلا بمشاركة المقاطعين للاستفتاء في الاستفتاء ذاته.

«حماس» اختارت، أو في طريقها إلى أن تختار، مقاطعة الاستفتاء، والدعوة إلى مقاطعته، مع إظهارها ميلاً إلى رفض نتائجه. وتفسير ذلك هو أن «حماس» تدرك أن الاستفتاء، وإذا ما أُجري في الوضع الذي يعيشه الفلسطينيون منذ ثلاثة أشهر على وجه الخصوص، سيمنح الفلسطينيين فرصة لتمييز دافعهم للتصويت في الاستفتاء من دافعهم للتصويت في انتخابات المجلس التشريعي، فما يريد الفلسطينيون الوصول إليه عبر تصويتهم في الاستفتاء يختلف عما أرادوا الوصول إليه عبر تصويتهم في انتخابات المجلس التشريعي.

في الاستفتاء إما أن يقر الفلسطينيون «الوثيقة» وإما أن يظهروا رفضهم لها. وفي كلتا الحالين، لا مناص من نتائج وعواقب، لا مناص لهم بعدها من انتخابات مبكرة.