بارانويا الغربة

TT

طالما اعتقدت وقلت إن لندن تعطي أحسن أداة لفحص نبض المواطنين العرب واستجلاء منظورهم. وعبر السنوات الطويلة التي قضيتها في هذه العاصمة، لاحظت هذه الظاهرة وهذا النمط السلوكي الذي دأبنا عليه. كلما ألقت بي المقادير في صحبة رجل اعمال عربي او في الحقيقة، أي مواطن عربي لديه مهمة او مسؤولية او مشكلة تقتضي مساعدة احد ما من المختصين او العارفين، وجدته يلتمس مني استبعاد اي عربي او مسلم آخر من نطاق الموضوع. «يا اخوي خالد لا تورطني بواحد عربي من جماعتنا. خليني وخلي الموضوع بعيد عنهم». لاحظت ذلك بصورة خاصة في العراقيين.

وهذا شيء عجيب. فالمفروض ان يلتمس المرء، وهو في ديار الغربة، المساعدة من ابناء جلدته وديانته. هذا ما يفعله معظم ابناء القوميات والطوائف الأخرى، كما لاحظت. ولا شك في انه واحد من اسرار نجاح اليهود في كل مكان وكل ميدان. فحيثما يحل بهم الركب يفتشون عن ابناء دينهم ليرشدوهم ويساعدوهم، وفي كثير من الأحوال ليمدوهم بالمال والقروض. بيد اننا، ولا سيما ابناء العراق، لا نخاف من شيء كما نخاف من ابناء وطننا.

بالطبع للموضوع اسبابه السياسية المرتبطة بنشاط مخابرات بلدهم والحزازات الحزبية والطائفية. إسلم بالابتعاد عن ابناء وطنك.

اتذكر من استاذنا سامي خندة، رحمه الله، اننا في احدى زياراته للندن خرجنا لأمسية في إحدى حانات بتني. كنا شلة من الأصحاب والضيوف القادمين الى العاصمة البريطانية. كان بينهم مهندس ميكانيكي يزور لندن لأول مرة في حياته. استطردنا في الحديث فراح استاذنا ابو سرمد، الكاتب الصحافي المخضرم والإداري المحترم في العهد الملكي، يروي لنا الشيء العجيب من المغامرات التي مر بها. استغربنا من حديثه، وكنا لا نسمع منه من قبل غير احاديث الأدب والسياسة وشؤون الوطن.

خرجنا من الحانة وانا متلهف لمعرفة حقيقة الأمر. بادرته بالسؤال. «عمي ابو سرمد، هذا الكلام اللي قلته عن البنت الهولندية اللي اخذتها معك لباريس. هذي قصة صحيحة لو هزل ومداعبة معانا؟»، نظر في وجهي وجرني جانبا ليهمس في اذني، «ابني خالد صير عاقل وتعلم! هذا المهندس الشاب اللي اجا معاكم، اش تعرفون عنه؟ كيف اجا الى لندن؟ منو اعطاه سمة خروج بها الأيام الحامضة؟ هذا يمكن مخابرات. بعثوه يتجسس على العراقيين. تريدني احكي امامه وطنيات واشتم الحكومة؟ هذا الآن يرجع للفندق ويكتب انه التقى برجل اسمه سامي خندة، رجل متفسخ ما يستحي من شيباته، لا هم له غير ان يركض ورا النسوان».

هذا جزء من الاغتراب المهاجري، الذي يجعل العربي يتوجس الشر من ابن وطنه، ويتحاشاه تحاشي السليم من الأجرب. والأتعس انني انا ايضا افعل فعله. فلا تطرأ لي قضية، وأجد طرفا فيها من ابناء قومي حتى اتعوذ من الشيطان.