مقررات الحوار .. قبل «ميثاق الشرف»

TT

لغاية 14 شباط (فبراير) 2005 كان يصح الاستنتاج بأنه بقدر ما تفرق الأزمات اللبنانيين تقربهم من التفاهم والتوحد... إن أحْسنَ القياديون تجييرها للمصلحة العامة مترفعين ولو آنيا عن الحسابات الطائفية الضيقة التي باتت خبز لبنان وملحه في الآونة الاخيرة.

هكذا انتهت أزمة الاستقلال عام 1943، ومن ثم ثورة العام 1958، وأخيرا لا آخرا، الحرب الاهلية (1975ـ 1989). كل هذه الاحداث كانت محطات أثبتت ان ليل الأزمات في لبنان ينبلج دوما عن غد وفاق جديد.

... ولكن، لماذا يستعصي هذا الغد على كارثة 14 شباط (اغتيال الرئيس رفيق الحريري) وهي الازمة التي أكدت انها الاكثر توحيدا للشارع اللبناني من أي حدث آخر منذ الاستقلال؟

اغتيال رفيق الحريري كان، ببعده السياسي الوطني، مفصلا تاريخيا فاتت على بعض القياديين اللبنانيين فرصة توظيفه لمصلحة الوطن رغم انه كان الشهادة القصوى الممكن تقديمها على مذبح الوطن. ولو فعلوا لأعطوا الحريري حقه الكامل في الشهادة واعطوا لبنان حقه المنقوص في الوجود بعد ان اثبتت ردود الفعل الشعبية الفورية على الجريمة انها «وطّنت» سنّة لبنان و«وطّنت» دروز لبنان وحولت مسلمي لبنان الى لبنانيين بالانتماء لا الهوية فحسب، وللمرة الاولى منذ الاستقلال.

لا تتوق الشعوب الى التوحد إلا إذا مرت بمحن قاسية. وكان بإمكان النخبة اللبنانية توظيف التيار الوطني الجارف الذي افرزته محنة اغتيال الحريري في البدء بتحقيق حلم الوطن الواحد المتجاوز للصغائر المصلحية والحصص المذهبية والقائم على قاعدة الولاء لقيم الديمقراطية الحقة لا الديمقراطية المقولبة طائفيا على سبع عشرة عشيرة... فيبدأ لبنان مسيرة نقلته النوعية من الحالة العشائرية ـ الطائفية الى الحالة الكيانية ـ الوطنية.

للتاريخ دورات نادرا ما تتكرر. والظرف التاريخي الذي افرزه اغتيال رفيق الحريري لم يكن مفترضا ان تنحصر تداعياته بخروج القوات السورية من ارض لبنان وببقاء لبنان دولة معلقة بين التطلعات الواعدة والآمال المحبطة.

واللافت ان الفرصة التاريخية لإقامة لبنان الوطن فرطت بها، هذه المرة، قيادة مارونية قدمت حساباتها السياسية الضيقة على حسابات لملمة الوطن وبنائه فبقيت المصلحة الطائفية هي التي تحدد المصلحة السياسية وبقي مصير الوطن رهين التصادم المزمن بين مصالح الطوائف، أو تلاقيها الظرفي بين حين وحين.

لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... والشوق الى الوطن ما كان يوما من أولويات الطبقة السياسية المستفيدة من تشرذم لبنان مللا ونحلا باسم الديمقراطية، من جهة، والطائفية من جهة أخرى، فاصبحت طبقة تتقن، بامتياز، جمع الاضداد وابتغاء الشيء وعكسه، وحتى مغالطة المثل الاميركي القائل بأنه يستحيل على أي كان «أكل الكعكة والاحتفاظ بها أيضا».

ربما تندرج في هذا الاطار دعوة الطبقة السياسية المتصارعة على المكاسب الطائفية الى التزام «ميثاق شرف» في لغة التخاطب اليومي بين ممثليها، رغم ان مجرد المطالبة «بميثاق شرف» إقرار فاقع بفشل التجربة الديمقراطية المذهبية في لبنان.

ومع التسليم بأن أدب التخاطب السياسي جزء لا يتجزأ من اللعبة الديمقراطية في الدول المتحضرة فإن السؤال يبقى: ماذا يقدم، او يؤخر، في أزمة لبنان الراهنة اعتماد «ميثاق شرف» في أدبيات الردح اليومي طالما بقيت دواعي الردح قائمة، إنْ لم تكن متفاقمة؟

من تحصيل الحاصل ان مشكلة لبنان سياسية، لا لفظية. وعليه كان من الاجدى الدعوة الى تطبيق ما تقرر من مقررات مؤتمر الحوار الوطني عوض الدعوة الى «تنميق» مفردات الردح السياسي، علما بأن تطبيق مقررات الحوار من شأنه اختصار الردح السياسي فيما قد يؤدي

«تنميق» مفرداته الى جعله مقبولا من كل الاطراف وبالتالي إطالة مرحلته على حساب الحل المطلوب لمشاكل لبنان.

يشيب الغراب قبل ان يتغير لبنان ... والمؤسف انه إذا تغير فمن السيئ الى الأسوأ.