هل أنقذ الانقلابيون السودان؟

TT

عندما أقدم الانقلابيون على انقلابهم في يونيو 1989، اقتسموا المهام على أن يتسلم العسكريون السلطة، وأن يحموها، وأن يديروا الحرب الأهلية، وفي المقابل يقوم الإسلاميون المدنيون بمهام الملفات: السياسية والاقتصادية والخارجية.

وبعد كل هذه الأعوام من التجربة المرة، قال شيخها: إن ما يتعرضون له الآن هو عقاب إلهي على فعلتهم. وقال آخر: إن ما فعلوا هو خطيئتهم التاريخية.

ولكن آخرين من صناع الانقلاب، ما زالوا يمجدون الانقلاب ويعدون إنجازاته: استغلال البترول، وبناء سد مروي، وإبرام اتفاقيات السلام. نعم استغلوا البترول الذي اكتشفته شفرون، في عهد النظام المايوي (1969 ـ 1985)، وجمدت نشاطها لأسباب أمنية، ولنفس الأسباب واصلت موقفها. ولكن أثناء العهد الديمقراطي، وبعد مد وجزر، اتفقنا معهم، أنهم بعد عامين يستأنفون عملهم أو يتنازلون عن حقوقهم لآخرين، هذا الاتفاق مكن السيد محمد جار النبي استنجازهم وعدهم، ففعلوا مقابل ثمن بخس، وفتحوا الطريق لاستغلاله عن طريق الشركات الآسيوية. ولكن عائد البترول السوداني اقتدى بعائد البترول النيجيري ولم يظهر له أثر تنموي ولا خدمي.

إن سد مروي هو ثالث ثلاثة سدود معدة للإنشاء منذ عهد الديمقراطية، وهو سد هام لزيادة الطاقة الكهرومائية في السودان. وكان ينبغي أن تتم تعلية خزان الرصرص، ثم أن يقام سد ستيت ثم سد مروي. لماذا قدم الثالث على الأول؟ إذا استطلع رأي مهندسي الري السودانيين كافة، لأعلنت أغلبيتهم عدم صحة هذا القلب للأولويات. وربما قال قائلهم: إن لقلب الأولويات أسباباً سياسية جهوية لا فنية اقتصادية!. أما بالنسبة للسلام كان هناك وقف مستمر لإطلاق النار، ومشروع اغاثة إنسانية مطبق باسم شريان الحياة، واتفاق على عقد مؤتمر قومي دستوري في 18/9/1989 بلا أستاذية أجنبية وبلا فرض تقرير المصير.

ولكن مهما اختلفت الرؤى حول هذه القضايا، فلا يستطيع الانقلابيون ردا على مقولة انهم دمروا وطنا باسم تطبيق الشريعة فيه!

النخبة التي دبرت الانقلاب صفوة سودانية ممتازة، وإذا قورنوا برصفائهم من الحركات ذات المرجعية الإخوانية في مصر، وفي الجزائر، وفي اليمن، وفي باكستان، فإن النخبة السودانية أكثر تأهيلاً علمياً، وأكثر انفتاحاً على الآخرين داخلياً وخارجياً، وأكثر وعياً، مع هذا التأهيل لماذا كان نصيبهم من الإخفاق ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة؟

تتكاثر الأسباب وأهمها سبعة هي:

أولاً: كافة أصحاب الرؤى الأيدولوجية أنجح في المعارضة منهم في السلطة، الهدم أسهل من البناء؛ لاسيما والإقدام على السلطة لم يسبقه تحضير مدروس لما يفعلونه بها؟!

ثانياً: التكوين السوداني بالغ التنوع دينياً وثقافياً وإثنياً، وهو لذلك لا يقبل الأحادية الدينية والثقافية، لاسيما في مناخ داخلي أدرك فيه غالبية المنتمين للديانة والثقافة المركزية ضرورة الاعتراف بالآخرين، ومناخ خارجي أكثر حفاوة بحقوق الإنسان الدينية والثقافية.

ثالثاً: المجتمع السوداني ذو مقومات ذاتية، استعصت على القبضة الشمولية في عهودها الثلاثة وفرضت تطلعاتها.

رابعاً: لكي يحكم الإنقلابيون قبضتهم، حلوا حزبهم نفسه أسوة بالأحزاب الأخرى فضاقت المشاركة، وانعدمت المساءلة، واعتمدوا على أجهزة السلطة فجرفتهم فتنة المال والسلطان.

خامساً: ضيق هامش المشاركة في حزبهم، أفرز مذكرة العشرة، وانفجرت صراعات متعددة الأضلاع بين عسكريين ومدنيين وطامعين فانقسم الحزب على نفسه انقساماً أفقد التجربة توازنها.

سادساً: برنامجهم التوسعي خلق ضدهم استقطابا إقليمياً واسعاً.

سابعاً: سياساتهم كونت ضدهم لوبيات دولية نافذة.

عوامل الإخفاق هذه أجبرت النظام على التراجع عن مشروعه الحضاري. التراجع لم يتخذ نهجاً استراتيجياً بديلاً، بل اتخذ طابع صفقات ومساومات وترضيات بدأت باتفاقيات السلام من الداخل، وانتهت إلى اتفاقية نيفاشا (يناير 2005) الاتفاقية أوقفت الحرب في جبهتها الجنوبية، ووضعت التحول الديمقراطي في أجندتها، ولكنها في التحليل النهائي، كرست صفقة ثنائية، سموها اتفاقية سلام شامل، بتحكيم ومباركة أجنبية، ومن دون مشاركة قومية.

ارتكب الإنقلابيون في دارفور تجاوزات خطيرة، خلقت استقطاباً داخلياً حاداً، وشدت إليها اهتماماً دولياً مدوياً. ورغم ذلك وما صحبه من مآسٍ، دمرت دارفور ومزقت إنسانها، فإن اتفاقية سلام دارفور أبقت على سياسات الانقلابيين المرتجلة، وعلى سقوف نيفاشا الثنائية، ولم تستجب لمطالب أهل دارفور.

إذا لم يتخل المؤتمر الوطني عن سياساته المرتجلة التي فرضها على السودان، دون مشاركة أهله، ولم يتخل عن سقوف نيفاشا الثنائية، فإنه لا يستطيع أن يبرم اتفاقاً يعطي الآخرين حقوقهم المستحقة، لذلك كان اتفاق القاهرة مظهرياً، واتفاق أبوجا نسخة ثانية منه، وستكون الاتفاقيات اللاحقة مماثلة.

بدأت الأطراف المعنية الأكثر وعياً، تدرك أن السلام العادل الشامل والتحول الديمقراطي الحقيقي، لا تؤسسهما الاتفاقيات الثنائية، مهما حظيت به من مباركات خارجية. وسوف يأتي يوم يعم هذا الإدراك الكافة، ويومئذ سوف يدرك بقية الواهمين، ان الاجماع الوطني هو السبيل الأوحد لاحتواء الغضبة الشعبية، ولا جدوى في تبضع الوساطات والمباركات في العواصم الأجنبية، ولا في الامتثال للإملاءات الخارجية:

وذي علة يأتي عليلاً ليستشفي به

وهو جار للمسيح بن مريم!