من جرائم أولمرت إلى جرائم تدمير التاريخ الفلسطيني

TT

يتجول ايهود اولمرت في العواصم الاوروبية (لندن وباريس)، حاملا تحت إبطه التأييد الأميركي لخطته بالحل المنفرد. وهو يعتمد على هذا التأييد ليمارس وقاحة ملحوظة في مخاطبة محاوريه. حتى أنه يتلاعب بالألفاظ كمن يضحك عليهم، غير عابئ بكل ما يسمعه من معارضة اوروبية. فإزاء إلحاح الرئيس الفرنسي جاك شيراك على ضرورو التفاوض الفلسطيني ـ الإسرائيلي، يرد اولمرت باستخفاف قائلا إنه سيتفاوض مع الرئيس محمود عباس على (خطة الانطواء) كما يسمي الإسرائيليون سعيهم للاستيلاء على القدس ونصف الضفة الغربية، فإذا نجحت المفاوضات، أي إذا رضخ عباس وانصاع لإرادة إسرائيل، يكون التفاوض قد تم، وإذا رفض فستعلن إسرائيل عدم وجود شريك فلسطيني وتبادر إلى تنفيذ حلها المنفرد.

هذه العنجهية الإسرائيلية في التحدث مع الكبار في اوروبا، تتساوق مع عنجهية عسكرية تنفذها إسرائيل ضد الفلسطينيين، وصلت إلى حد ارتكاب المجازر المتعمدة، التي أودت بحياة عائلة فلسطينية كاملة كانت تستجم على شاطئ البحر، ولم يبق من العائلة سوى الطفلة (هدى) التي وصلت صرخاتها إلى أربع رياح الأرض، لتفاجئنا إسرائيل بوقاحتها المعهودة (هوتسباه بالعبرية التي أصبحت كلمة مباهاة في الدبلوماسية الإسرائيلية وفي القواميس الجديدة أيضا)، قائلة إن إسرائيل بريئة من هذه الجريمة، وأن قواتها البحرية والجوية والبرية، التي كانت كلها موجودة في المكان، لم تقصف في تلك اللحظة، وأن اللغم كان موجودا أصلا على شاطئ غزة. و«الدليل» الذي يؤكد صحة هذه الرواية الإسرائيلية، أنها قامت في اليوم التالي بقصفٍ قتل بسببه 11 شخصا وجرح أكثر من ثلاثين. وحين علق اولمرت على مجزرة العائلة قال إن الجيش الإسرائيلي هو أكثر الجيوش أخلاقية في العالم، بدليل أن شخصا مثل عمير بيريتس وزير الدفاع الحالي، جاء إلى المنصب وهو يدعي البراءة، داعيا إلى استئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، ووقف عمليات القصف المدفعي الإسرائيلي، وأصبح بين ليلة وضحاها في عداد السفاحين الإسرائيليين الذين ينتجهم الجيش الإسرائيلي (الأخلاقي) بكثافة، حتى أن جنرالاته يخشون السفر عبر العواصم الاوروبية حتى لا يتم اعتقالهم وتقديمهم إلى المحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

إن إسرائيل حريصة على سمعتها الأخلاقية، وعلى تثبيت نظرية (الاحتلال المثالي)، حتى أنها ترفض الاعتراف بارتكاب أية مجزرة (إلا بعد 50 عاما حين يتم كشف الوثائق السرية)، وترفض استقبال لجان التحقيق بالمجازر، كما حدث بعد مجزرة مخيم جنين عام 2002، هذا المخيم الذي لا نبالغ إذا قلنا إن إسرائيل اجتاحته منذ ذلك الحين أكثر من ألف مرة للقضاء على المقاومين بداخله، وهو مخيم لا يتعدى حجمه عشرات البيوت مع شارعين صغيرين بداخله.

وبما أن اولمرت هو رئيس وزراء الصدفة، بعد آرييل شارون، وبما أن آرييل شارون كان قد قال عندما بدأ مواجهة الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، إن ما نفعله هو مواصلة حرب الاستقلال في عام 1948، فقد أخذ اولمرت على عاتقه أن يواصل تنفيذ تلك المعركة، والتي تعني الاستيلاء على أراض فلسطينية جديدة، وتوسيع حدود دولة إسرائيل، وحبس الشعب الفلسطيني في كانتونات مقطعة، تحقق نظرية مناحم بيغن القائلة بأن الحكم الذاتي هو للسكان وليس للأرض. وبينما كان شارون يبدو، وهو يعلن ذلك، كجنرال حقيقي مستورد من ألمانيا النازية، فإن اولمرت يبدو إزاءه كجنرال في مسرحية هزلية. ولكن هذا الجنرال الهزلي يستمد قوة من دعم الرئيس جورج بوش له، ولذلك فإنه يتواقح على الجميع من أجل كسب الوقت، ولكي ينفذ ما يريد في فترة رئاسة جورج بوش، وحتى لا تضيع عليه هذه الفرصة النادرة التي يمثلها هذا الرئيس الذي تقول آراء الأميركيين إنه أسوأ رئيس في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية.

وللأسف.. فإن هذه الظاهرة الإسرائيلية المتعصبة والجاهلة، والتي تشارك في حصار الشعب الفلسطيني وتجويعه، إلى حد أنها تحجب عنه أمواله، تواجه بظاهرتين فلسطينيتين مؤسفتين:

أولا: ظاهرة الخلاف الفلسطيني الداخلي الذي ينشغل بالمهاترات والمواجهات المسلحة، وبالخلاف على الصلاحيات، وبعقد جلسات للحوار يتهددها سيف الاستفتاء، ويدير اجتماعات في مقر الرئاسة، وجلسات في المجلس التشريعي تبحث في القوانين والدساتير، وأخرى في رئاسة الحكومة تطمئننا بأن الطريق سالكة بين رئيس الوزراء ورئيس السلطة اللذين يلتقيان ويتحاوران بكل الاحترام الواجب، بينما يواصل اولمرت جولاته، ويواصل تحدياته للأوروبيين وللعرب وللفلسطينيين.

ثانيا: ظاهرة جديدة برزت أخيرا، وهي أخطر من كل سابقاتها، وعنوانها «إلغاء تاريخ فلسطين». وللأسف أيضا فإن هذه الظاهرة تبرز على أيدي فلسطينيين. فقد نقلت لنا أنباء الصحف أن دمشق تشهد منذ أيام حوارا بين الفصائل الفدائية لإعادة إحياء منظمة التحرير الفلسطينية، وأن هذه المنظمات أنجزت «الوثيقة التنظيمية والبرنامج السياسي لتعديل ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية». وحسب هذه المسودة فإن المنظمات تعتبر «فلسطين التاريخية جزءا لا يتجزأ من الأمة العربية والإسلامية، والعمل على استنهاض الأمة بكل قواها لدعم صمود ونضال شعبنا الفلسطيني حتى إنجاز أهدافنا كاملة». وإذا كانت هذه هي فقط الأفكار الجديدة للميثاق التي ستكون بديلا لأفكار الميثاق الذي تم الغاؤه (1966)، فإن هذه الأفكار تشكل كارثة حقيقية، وذلك لأن الفكرة المسجلة هنا ستكون بديلا لكل الأفكار والمواقف التي تسجل (في الميثاق الملغى) وقائع التاريخ الفلسطيني وتحدد الموقف منها، بدءا من وعد بلفور، ومرحلة الانتداب البريطاني، وحرب 1948، فتلغيها وتبقي على الجملة العامة التي وردت أعلاه. وهذا يعني إلغاء الرواية الفلسطينية للصراع العربي ـ الصهيوني، لتبقى الرواية الصهيونية وحدها قائمة على الأرض. إن عدم وضع ميثاق جديد من هذا النوع افضل بكثير من استبداله بميثاق مبتسر ومبتور، يتحرج من تقديم الرواية الفلسطينية كأساس للميثاق، وكأساس لتفسير الصراع العربي ـ الصهيوني، ويسهل على اولمرت استكمال حرب الاستقلال الإسرائيلية.

وتكاد هذه الظاهرة الخطيرة، الساعية إلى صياغة ميثاق فلسطيني كيفما كان، أن تكتمل بعمل أشد خطورة يقوم على تشكيل لجنة إسرائيلية ـ فلسطينية لوضع ما يسمونه «تاريخ مشترك للصراع». هل يمكن وضع تاريخ فلسطيني ـ إسرائيلي مشترك للصراع؟ ماذا نسمي الهجرة اليهودية إلى فلسطين ؟ «غزو» أم «عودة إلى أرض الآباء والأجداد»؟. ماذا نسمي الأرض نفسها، «أرض الشعب الفلسطيني» أم «الأرض الموعودة»؟ ماذا نسمي حرب 1948، «حرب النكبة» أم «حرب التحرير» كما يقول الصهيونيون؟ وحين نختلف حتى على التسميات، هل يمكن أن نواصل البحث والتعاون ونكتب تاريخا مشتركا؟

إن «ملتقى الفكر العربي» في القدس سيكون الشريك الفلسطيني في هذا المشروع، وستنشر الحصيلة بالاشتراك بين الملتقى وبين مؤسسة سالزبورغ النمساوية. ستمثل الجانب الفلسطيني حسب «الملتقى» لجنة مكونة من 12 خبيرا فلسطينيا. وكانت صحيفة «هآرتس» قد نشرت في 12/6/2005 مقابلة مع البروفيسور (جدعون بيجر) من جامعة تل أبيب قال فيها إنه سيشترك مع فلسطينيين في تسجيل التاريخ برؤية فلسطينية ـ إسرائيلية مشتركة، وأن لديه خطة متكاملة في هذا الشأن، وأن الفلسطينيين المشاركين معه في المشروع لا يعلمون عن خطته هذه، وإنما يريد الاستفادة من معلوماتهم. واعترف جدعون بيجر بأنه يعمل مستشارا سياسيا وجغرافيا (!!) للنائب العنصري (أفيغيدور ليبرمان) الذي يدعو إلى التطهير العرقي للفلسطينيين.

وسؤال الختام هنا، هل سيكون هذا التاريخ المشترك ـ إذا ما أنجز ـ خاتمة لتنفيذ خطة اولمرت بالحل المنفرد؟ وهذا التاريخ المشترك هل سيقسمه الجدار العازل أم سيبقيه موحدا؟ وهل يستطيع شعار «يهودية الدولة» أن ينتج تاريخا مشتركا؟

إن بعض الفلسطينيين يدمر القضية الفلسطينية بينما يظن أنه يبني. وبعض الفلسطينيين ينشغل بالحوار والاستفتاءات بينما تتواصل تصفية القضية على بعد مئات من الأمتار. وبعض الفلسطينيين يحاول أن يتصدى لقضية الجوع من دون أن يفكر بالتصدي لمن أوجدوها.