تداخل المنابر بين الديني والسياسي

TT

ترتكز التيارات الاسلامية في المنطقة العربية والاسلامية بشكل رئيسي على المساجد ومنابر الجمعة وإحياء المناسبات الدينية في بناء قاعدة جماهيرية واسعة تنطلق منها في حركتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية نحو المجتمع من اجل أسلمته تارة وزجِّه في اتون الصراعات السياسية والطائفية تارة اخرى .

ونحن اليوم نعيش مرحلة بناء الانسان العراقي الذي يعتبر المحور لكل الانشطة الدينية والسياسية، لا بأس ان نقيم امكانيات نجاح او فشل كل من المؤسسات السياسية التي اكتمل هرمها ووصل قطارها الى محطته الاخيرة بتشكيل الحكومة الدائمة من جهة، والمؤسسات الدينية من جهة اخرى، وبالتحديد المساجد والجوامع والحسينيات، وهل ادى خطباؤها والقائمون عليها دورهم المطلوب في توعية الناس بأمور دينهم ودنياهم من عبادات ومعاملات وغيرها .

بشكل عام يمكن القول إن للطرفين نصيبهما مما لحق بالإنسان العراقي من دمار وكوارث، الا اننا هنا بصدد معرفة دور خطباء الجمعة في بناء الانسان العراقي روحيا، وهو على ما اظن وظيفتهم المحورية التي حددها النص الالهي المقدس في قوله تعالى «إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون» ولكن المفارقة هنا هي ان الناس الذين اعتادوا ان يتقربوا الى الله زلفى في يوم من أقدس ايام المسلمين، وربما سمي بيوم الجمعة لانه يجمع القلوب المشتتة على كلمة حق وسواء وهي ذكر الله تعالى، وجدوا بمن ينبغي لهم تحمل مسؤولية تذكيرهم بالله يوم الجمعة وهم الخطباء يتناسون هذه المهمة الإلهية المقدسة ويحاولون ان يستثمروا اللقاء الايماني المنتظم بأمر السماء من اجل مصالح دنيوية، معتقدين بذلك بأنهم يمتلكون وصاية شبه كاملة على مجتمع هو في احسن الظروف مجتمع قاصر في نظر بعضهم عن إدراك مجريات الاحداث السياسية التي يعيشها العراقيون منذ زوال النظام السابق الذي كان بارعا في ترويض العديد من خطباء وأئمة المساجد لصالح الدعاء له بالنصر والسداد على اعدائه من جواره ومن العراقيين، ومباركة أعماله التي راح ضحيتها النجباء من ابناء هذا البلد حتى ان البعض منهم لم يكن ليتوانى عن الدعوة الى الالتزام بقول احد الفقهاء «من اشتدت وطأته وجبت طاعته» .

ان العنف والارهاب والاحتقان الطائفي الذي افرز اسوأ كارثة يمكن ان تهدد مستقبل العراق، ألا وهي القتل على الهوية والتطهير والتهجير القسري والتدمير الممنهج.. أقول مشاريع الدم هذه لا يستطيع احد ان يتهم بها القوى العلمانية او اليسارية اذ انها لا تملك منظومة التفكير الممهدة لذلك، فضلاً عن افتقادها للحوافز الاخروية من الحور العين، بجانب انها ليست وريثة الفرقة الناجية والحقيقة المطلقة، ويغيب عنها المقدس تأويلاً واحكاماً، في حين لا يعقل ان نبرئ منها أئمة وخطباء المساجد الذين اتخذ البعض منهم المنبر وسيلة للولوج الى عالم السياسة، عالم الصراع والاصطدام والاختلاف، عبر إلقاء خطب لا تذكر المؤمنين بالله وانما يتم فيها تبني مواقف سياسية واصدار احكام قيمية مستحضرين الادلة ومستعيدين الإسقاطات التاريخية، جاعلين بذلك العمل السياسي ـ الذي كله يدور حول المصلحة ـ مقيداً بالمقدس .

فما بين رجال السياسة اصحاب الاختصاص وخطباء المنابر، الذين غير الكثير منهم وظيفته الاجتماعية الاصلاحية، في يوم الجمعة، الى متحدث او ناطق رسمي يعقد فيه مؤتمرا صحفيا يخفف فيه العناء والمخاطر التي تواجه الاعلاميين اثناء ملاحقتهم للسياسيين لمعرفة آخر مواقفهم ازاء ما تعيشه البلاد، اذ تقع على الطرفين مسؤولية بناء مجتمع مدني متماسك تحكمه سلطة القانون والمؤسسات وتتكامل فيه الادوار، كل بحسب اختصاصه، ولنسأل انفسنا اولا: ماذا جنى الخطباء من وراء إهمالهم لمسؤولية بناء الانسان روحيا وتربية نوازعه ورغباته الذاتية التي هي مصدر شقائه وسعادته في الوقت نفسه مستثمرين حالة غياب سلطة قوية اخرى تنافسهم سواء كانت احزابا سياسية قوية ام مؤسسات مجتمع مدني، فهل تمكنوا من التأثير حقيقة في روحية الفرد العراقي الذي اضيفت الى معاناته اليوم معاناة جديدة وهي حالة الضعف الايماني التي توفر مدخلا سهلا للانحراف والجريمة والتخريب، واللافت ان لا نجد منبرا اسلاميا يحاول ان ينتقد اداء افراده ويغفل حتى عن توجيه اللوم لهم، حتى ان مؤسسات الدولة التي حصلوا عليها سجلت معدلات مرتفعة من حالات الفساد الاداري والمالي المشرعن في بعض الحالات .

الذي يبدو ان المسجد اخذ يفقد دوره الاساسي في كونه يعتبر مكاناً يتلقى فيه مريدوه علوم الاسلام وتعاليمه ويعرف فيه الانسان حلاله من حرامه ويقوم بعباداته ويتلقى التثقيف الذي يبنيه بناء ايماني راسخ، فالمسجد بدلا من ذلك اضحى يمثل فرعا، او قل مكتبا، من مكاتب الاحزاب والقوى الاسلامية التي فرضت خطابا سياسيا معينا على المواطن الذي يأتي الى المسجد بغية التقرب الى الله تعالى ونيل رضاه، فيتفاجأ بانه اصبح عضوا في هذا الحزب او تلك الجماعة. وربما تنذر هذه الظاهرة السلبية بخلق فجوة عميقة في المستقبل بين الدين والمجتمع تعمل على إبعاد الكثيرين عن الروحية الخلاقة لإسلامنا العظيم، لا سيما ان الخلافات السياسية قد تجعل من المساجد ودور العبادة جزءا من منظومة الانحراف السياسي الذي كان ولا يزال السبب الرئيسي من اسباب تخلف العالم الثالث وبالخصوص بشقه الاسلامي.

والسامع الى النائب الاسلامي الاردني ابو فارس، وجدله الفقهي ازاء اكبر ازمة سياسية تواجهها الامة والعالم في العقد الاخير، يدرك كم تسطّحت السياسة وخسر الدين .