ماذا بين أميركا والعالم؟.. حتى لا يضحك أحد على أحد..

TT

شاركت أخيرا في هيئة نقاش بلندن حول النزاع الأهلي و«الدول الفاشلة» في مختلف أنحاء العالم، وركزت المناقشة حول العمل الهام للاقتصادي البريطاني بول كولير. وكان بين المشاركين في النقاش، ابن أحد زعماء التحرير الأفارقة المشهورين وقد تحول الى دكتاتور، زعيم سابق لجماعة حرب عصابات في أميركا الجنوبية، وصحافي باكستاني، ومسؤول في الأمم المتحدة، ورئيس لإحدى المنظمات الانسانية غير الحكومية. ومن الطبيعي ان مناقشتنا سرعان ما تحولت الى إدانة للسياسة الخارجية الأميركية.

وكان الشيء الملفت للانتباه، أن الحرب في العراق كانت بعيدة عن أن تكون الموضوع الرئيسي. ونادرا ما جاءت سيرة الرئيس جورج دبليو بوش، فيما ركز المشاركون بدلا من ذلك على قائمة طويلة من المظالم ضد النشاط التوسعي للولايات المتحدة خلال ستة عقود من الزمن. وكان هناك نقاش واسع حول «الارث الكولونيالي» و«الكولونيالية الجديدة»، خصوصا في الشرق الأوسط وأفريقيا. وعلى الرغم من أن المستعمرات موضوع النقاش كانت تحت حكم الأوروبيين، فإن المناقشين أصروا على ان هذا الماضي الكولونيالي كان مصدر معظم الاستياء المنتشر في العالم تجاه الولايات المتحدة. وكان هناك كثير من النقد للسياسة الأميركية خلال فترة الحرب الباردة لفرضها أنظمة شريرة وخلقها الفقر والمعاناة في العالم، وإعاقة حركات التحرير خدمة لشركات النفط والشركات المتعددة الجنسيات. وعندما طرح مدير المناقشة موضوع نشر الأسلحة النووية وإيران، تحدث المشاركون حول هيروشيما وناغازاكي.

أما بالنسبة لـ «الدول الفاشلة» والنزاعات الأهلية، فقد اتفق عدد من المشاركين على أنها كانت على الدوام وفي كل مكان غلطة الولايات المتحدة. وأصر الأفريقي على ان البوسنة وكوسوفو دمرتا بسبب التدخلات العسكرية الأميركية، وليس بسبب سلوبودان ميلوسوفيتش، وأن الصومال دولة فاشلة بسبب السياسة الأميركية. وأكد الباكستاني على ان الولايات المتحدة هي التي تتحمل اللوم على انحدار افغانستان الى الفوضى في سنوات التسعينات. وأصر الزعيم السابق لحرب العصابات على ان معظم، ان لم يكن كل، المشاكل في النصف الغربي، كانت نتاج ما يزيد على قرن من الامبريالية الأميركية.

وكانت لدى بعض هذه الاتهامات مزايا أكثر من غيرها، ولكن حتى مدير مجموعة النقاش أصبح غاضبا بسبب الرفض العام لوضع المسؤولية على شعوب وزعماء البلدان التي تعاني من الحرب الأهلية. غير أن المشاركين تمسكوا بموقفهم الراسخ. وعندما أوضح أحدهم أن الشباب الصغار الذين يخوضون القتال في حروب قبلية واثنية لا يمكنهم بسهولة خوض القتال ضد «الامبريالية» الأميركية، أكد ابن الدكتاتور الأفريقي ان الأمر على هذا النحو بالفعل. وعندما توقف رئيس المنظمة غير الحكومية عن هجومه على السياسة الأميركية ليشير الى انه ربما لا يتعين توجيه اللوم الى الولايات المتحدة على أعمال الابادة الجماعية في رواندا، جادل ابن الدكتاتور الأفريقي بأنها تتحمل المسؤولية لأنها أخفقت في التدخل. وكان ينبغي توجيه اللوم الى الولايات المتحدة على المعاناة التي سببتها والمعاناة التي لم تشارك في تخفيفها.

وهذه المناقشة تتميز بالطابع التنويري. فليس هناك شك في ان الحرب في العراق أثارت العداء تجاه الولايات المتحدة في مختلف أنحاء العالم. وهناك الكثير من النقد المشروع الذي يتعين توجيهه الى ادارة اميركا للحرب. ولكن يجدر ان نبقي في اذهاننا، ان هذا السخط ضد الولايات المتحدة يتميز بجذور عميقة أيضا.

فقد أنعشت الحرب العراقية مشاعر السخط القديمة تجاه الولايات المتحدة. ووحدت طيفا واسعا من الآراء المناهضة لأميركا في حركة تضامن مشترك. فما يزال الماركسيون الأفارقة غاضبين على السياسة الأميركية في ستينات وسبعينات القرن الماضي، والباكستانيون ما يزالون غاضبين من دعم أميركا بحزبيها للدكتاتور الجنرال محمد ضياء الحق في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، وكذلك حال المنظرين الفرنسيين الذين بدأوا النقد الشديد ضد «القوة العظمى» الأميركية في التسعينات، وما يزال رجال حرب العصابات اللاتينيون السابقون يشنون كفاحهم الذي استمر عقودا ضد الامبريالية الشمال أميركية، وما يزال النشطاء العرب ساخطين بسبب حرب 1948.

وفي مؤتمر في الشرق الأوسط عقد قبل أشهر، سمعت باحثا عربيا معتدلا يتذمر بمرارة من أن السياسة الأميركية قد أقصت الشعوب العربية في السنوات الأخيرة. وكان مسؤول سابق في إدارة كلينتون يجلس الى جانبه ويهز رأسه موافقا، ولكنه توقف فجأة عندما أوضح الباحث العربي انه يعني بـ «السنوات الأخيرة» الفترة منذ عام 1967.

وهناك درسان لا بد من استخلاصهما مما جرى في المناقشة. الأول انه بمرور الزمن سيهبط هذا المد في معاداة أميركا كما حدث في الماضي. ويمكن للدبلوماسية الأميركية الأذكى، بالطبع، أن تساعد على هذا، كما يمكن أن يساعد النجاح في أماكن مثل العراق. ولكن الدرس الآخر ليس الخضوع لوهم أن أميركا ظلت محبوبة حتى ربيع عام 2003، وستعود محبوبة عندما يرحل جورج دبليو بوش عن منصبه. ويبدو أن البعض يعتقدون انه بالعودة الى سياسات هاري ترومان ودين أشيسون وجون كنيدي سيصبح لأميركا شعبية في مختلف أنحاء العالم. أنا أحب تلك السياسات أيضا، ولكن لا حاجة بنا الى الضحك على أنفسنا. فقد أثارت أيضا استياء هائلا من جانب الملايين في كثير من البلدان، وهي مشاعر تتقدم الآن الى الطليعة. والحقيقة هي ان اميركا هي القوة المهيمنة في العالم، وانها ستواجه على الدوام النقد واللوم على ما تفعله وعلى ما لا تفعله.

ولا يتعين على أحد أن يغض النظر عن العداء الحالي تجاه الولايات المتحدة، واستعداد الآخرين للعمل معنا. ولكن يتعين علينا ألا نصاب بالشلل جراء مشاعر السخط التي لا يمكن تفاديها والتي تخلقها قوتنا. واذا ما أحجمنا عن العمل انطلاقا من الخوف من أن الآخرين في العالم سيكونون ساخطين علينا، فإننا لن نفعل شيئا على الإطلاق. وتأملوا الأمر لتجدوا أنهم سيلوموننا على ذلك أيضا.

* خدمة «واشنطن بوست» ـ (خاص بـ «الشرق الأوسط»)