يا كاكه مسعود.. أيجوز توزير سارق الحروف..؟

TT

صادق برلمان إقليم كردستان العراق على الوزارة الكردية الخامسة، بعد سنوات من وجود وزارتين منفصلتين: أربيل والسليمانية. وليس هناك عجب أن يحضر برهم صالح نائب رئيس وزراء العراق ممثلاً عن بغداد. وأرى في حضور برهم، وهو المسؤول الكردي، دلالة على أن الكُرد في عمق الحدث. والتنسيق ليس بين بغداد عربية وأربيل كردية، إنما لجغرافيا العراق ضروراتها. تشكلت أول وزارة العام 1991، وكانت خنادق دولة البعث تطوق المكان. وحينها تبوأ رئاستها الباحث والأكاديمي فؤاد معصوم، صاحب كتاب «إخوان الصفاء.. دولتهم وغايتهم». وكان من بين أعضاء الخمس حكومات مثقفون: فلك الدين كاكائي، وهو من ملة عصمتها الجبال من فتاوى القتل. وسامي شورش، الذي عرفته الصحافة العربية قبل الكردية كاتباً وباحثاً. وتوزر للصناعة الآشوري يونان هوزايا المتعلق بالعراق رغم لَجَاجَة حادي قوافل هجرة المسيحيين. وبينهم أيضاً (كاتب) مدمن سرقة الحروف، وستأتي قصته.

كان أغلب رؤساء وزارات العراق عامة من ضباط الجيش، وأصحاب البيوتات من السياسيين المحترفين، ما عدا فاضل الجمالي، وعبد الرحمن البزاز، وفؤاد معصوم (حكومة إقليم كردستان) لم نجد بينهم مَنْ هو صاحب بحث وتأليف. أما الوزراء الكُتاب فكثر، وفي مقدمتهم: الشيخ محمد رضا الشبيبي، والشيخ علي الشرقي، وفيصل السامر، وعبد الستار الجواري، وصاحب كتاب «الكرد وكردستان» محمد أحمد زكي، والإعلامي روفائيل بطي وغيرهم.

وكاد العراق يتجاوز محناً عسيرة لو تمكن هؤلاء الرؤساء من تحقيق نواياهم: فاضل الجمالي في التعليم والعمران، وأراد المفكر القانوني البزاز تحقيق الديمقراطية وإنصاف الكُرد، بلا غزو أمريكي، لولا تآمر مصر الناصرية عليه لصالح عبد الرحمن عارف، ثم قتله البطيء بعد خروجه من معتقل قصر النهاية، وكان يجري عليه عذاب متواصل من قِبل جهلة أجلاف، وكأن لسان حاله يقول ما قاله شيخ المعتزلة ابن أشرس (نحو 215 هـ) لسجانه: «جهد البلاء عالم يجري عليه حكم جاهل». لكن أياً من هؤلاء الرؤساء، في ظل السياسة العراقية التي «تعض حالبها»، لم يعصره ألم التفريط في بحثه وعلمه؟ سألت الدكتور معصوم: هل يشغلك بحث أو موضوع الآن؟ قال متحسراً: لا مجال غير إعداد البيانات ومسودات الاتفاقات بين الكتل الانتخابية، فهو بعد رئاسة حكومة الإقليم أصبح رئيساً لكتلة التحالف الكردستانية!

ربما جعلنا زمن الاستبداد الطويل النظر إلى الوزير بعلو ورفعة تحت مؤثر، أو رغبة في الخنوع! فمَنْ يبحث في كتاب «الوزراء والكُتاب» لابن عبدوس الجهشياري (ت331 هـ)، و«الوزارات العراقية» لعبد الرزاق الحسني سيجد ماذا تعني منازل الوزراء. لكل ما تقدم، ما يزال الوزير في ذاكرتنا ذا شأن. وبهذه الخلفية من ذِكر الوزراء الكُتاب، وليس بينهم سارق أموال أو حروف، فاجأني أمر وزارة إقليم كردستان العراق، أن يحل جورج منصور وزيراً للإقليم، أي ما يعادل وزير الدولة، ممثلاً للآشوريين والكلدان. والمفارقة صارخة ما بين منصب الوزير وإدمان السرقات الكتابية.

إن إسناد الوزارات على أساس التمثيل المذهبي والديني والقومي، لا يعني إغفال تاريخ الوزير وسيرته الذاتية. وأشخاص مثل جورج منصور لديهم القدرة على تلميع الذات وتقديمها. تولى أمر الإذاعة العراقية في زحمة فوضى السقوط، ثم إدارة فضائية «عشتار». ولا علم لي بقدراته الإعلامية فأنا لم ألتق به يوماً من الأيام. وعندما دعاني أحد العاملين في «عشتار» لإجراء حوار خلال زيارة أربيل، سألته عن مديرها، قال: جورج منصور! عندها شكرته على الدعوة، وأوضحت له كيف أجري حواراً مع محطة يرأسها مَنْ جمعت له ملفاً من السرقات الكتابية! ومع أهمية تلك المواقع الإعلامية إلا أنها تبقى أقل من شأن الوزارة. ومن وقائع سرقات الوزير الجديد الكثيرة: سرقته لبحث الباحث الإيراني محمود راميار، المنشور في مجلة «الثقافة الجديدة» (214 سنة 1989). نشره في موقع «إيلاف» باسمه في (2 مايو ـ أيار 2004)، وقد افتضح في الموقع نفسه. وصاحبنا سبق أن انتحل البحث نفسه في صحيفة «المرآة» العدد 160 بتاريخ 2 ديسمبر (كانون الأول) 1993.

ومن غرائب سرقات الوزير أنه كان يسرق ما يكتبه أخوه الكاتب الجيد ناصر منصور، مستغلاً وجود الكاتب بعينكاوة ووجوده في كندا. ومنها ما نشره ناصر في جريدة «خه بات» الصادرة بكردستان العراق بالعربية «تحولات» (فبراير ـ شباط 1993) لينتحله جورج في صحيفة «المرآة» ديسمبر 1994 تحت عنوان «الثورة في الفن». وانتحل مقال إبراهيم محمود «من سيكولوجيا الفن إلى سوسيولوجيا الفن» المنشور في مجلة «النهج» (عدد 32 عام 1991)، وهو عبارة عن عرض كتاب تحت عنوان «وجهات في نظر» لجون برجر. ونشر ما سرق منه في صحيفة «مرآة» تحت عنوان «كرنفالات الفن المثيرة».

لم تعد سرقات جورج منصور خافية على أحد. لكن ما لا يعقل أنه وزِّر في وزارة إقليم كردستان كممثل للآشوريين والكلدانيين، يعني حقوق جماعة لا امتيازات فرد. مع أن هذه الطائفة، التي يمثلها صاحبنا، تمتلك من الكوادر والخبرات ما لا يمتلكه غيرها عبر التاريخ. لذا أجد في هذا التوزير أن رئيس إقليم كردستان مسعود البرازاني سيدفع شعبه إلى قول ما كان يقوله البغداديون في مدير شرطتهم، غير المناسب، نجح الطولوني زمن المقتدر بالله العباسي (قتل 320 هـ): «أخرج ولا تبالي ما دام نجح وال» (مسكويه، تجارب الأمم).

أما المسيحيون فالمفروض أن يطلبوا لتمثيلهم مَنْ يحترم الكلمة، بعد وزرائهم الكبار: يوسف غنيمة، وروفائيل بطي وغيرهما. فهم أُصلاء في هذه الأرض، وأثرهم موجود في كل مكتبة ودائرة وشاهد حضاري في العراق. علق أحد المطلعين على الحال بالقول: لو استحدثت لصاحبنا وزارة الوثائق والمخطوطات! فقلت حتى يُقال ما كان يقوله السريّ الرَّفاء (ت 391 هـ) في أخوين غارا على قصائده: «والله ما مدحا حياً ولا رثياً.. ميتاً ولا افتخرا إلا بأشعاري» (المحب والمحبوب..).

عموماً، أن من نِعم الديمقراطية ليس هناك مستور لا تناله الأقلام والألسن، إن كانت هي المفردة المقصودة، وإلا على حد عبارة شاعر اليمن عبد الله البردوني، عندما سُئل التحدث عن الديمقراطية فأجاب مع قهقهته الشهيرة: «أليست الغيبة حراما»! والسؤال يقدم لفقهاء القوانين والدساتير: إذا كان لا يجوز توزير سارق الأموال بعد شهارته فهل يجوز توزير سارق الحروف؟

[email protected]