فقه الفتوى وواجب المفتي

TT

مع كثرة الحديث عن ضوابط الفتوى، وأهمية تفقه الناس لفقه الفتوى، ومع تزايد الدعوات الى ايجاد حل لما اصطلح على تسميته بفوضى الفتاوى، رأيت ان ادلي بهذه الكلمات:

مهمة الفتوى مهمة عظيمة تولاها خير البشر صلى الله عليه وسلم وخلفه على ذلك أئمة الهدى والدين من خلفائه الراشدين ومن حذا حذوهم في المنهج الحق وسلوك الصراط المستقيم، فكان هناك في الصدر الاول من الصحابة الكرام رضوان الله عليم عدد طيب من اهل الفتيا، وأحجم فريق آخر منهم عن الفتيا، وعن الخوض فيها، لعلمهم رضوان الله عليهم، انهم لا يصلحون لمقام الفتيا ومركب التحليل والتحريم.

وتتالت الايام، ثم وجد في عصر تابع من فقهاء الاسلام وجهابذة العلماء من تصدوا لمهمة الفتيا، وتأليف الكتب، في الفقه وتدوين الاحكام وتأصليها فقهيا، في مدونات محفوظة، ومنضبطة بضابط التأصيل، لتكون نبراسا، بعد ذلك، لكل من تصدى للافتاء والحكم بين الناس.

إنه لا بد في كل عصر من علماء مقتدرين، يفقهون عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، يتميزون بملكة الفقه واستخراج الاحكام من النصوص الشرعية والقواعد الاصولية، مع معرفتهم التامة بتطبيق الفتوى على كل نازلة بما يتوافق مع حكم الله وحكم رسوله عليه السلام، ومع مراعاة ما جاءت به نصوص الوحيين من اعتبار المصالح وانتفاء المفاسد، وقد حذرت النصوص الشرعية، والمحققون من العلماء من الجرأة على الفتوى، والقول على الله بغير علم، ومن ذلك، ومن جملة هذه النصوص، ما أشار اليه الامام ابن القيم رحمه الله في كتابه «اعلام الموقعين عن رب العالمين» فليس كل عالم في فن من الفنون له الحق في التصدي للفتوى، فهناك المحدث وهناك الاصولي (اي العالم بعلم اصول الفقه) وهناك اللغوي، وهناك الحافظ للنصوص، لكن مهمة الفتوى هي للفقيه فقط. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «من يرد الله به خيرا يفقه في الدين»، والفقه في اللغة هو الفهم، وقال صلى الله عليه وسلم : «بلغوا عني ولو اية، فرب مبلغ علم اوعى من سامع، ورب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه الى من هو افقه منه».

وقال احد المحدثين للامام الشافعي: نحن الصيادلة وانتم الاطباء.

ولذلك فانني ارى انه، وبعد الانتباه الى هذه المقدمة التي مررنا عليها، ارى انه لا يجوز الحجر في الفتوى المتعلقة بافراد الناس، وقصرها على اشخاص معينين، فذلك متعذر، مهما بلغ عدد هؤلاء الاشخاص المخصصين، فمئات الملايين من المسلمين في حاجة ماسة الى الفتوى الفردية في مسائل تواجههم في حياتهم اليومية، وقد عجز المتصدرون للفتوى، مع كثرة اجهزة الاتصال الحديثة وتطورها، عن الوفاء بحاجات الناس لهذا النوع من الفتوى، اما بخصوص الفتوى الرسمية التي تعترض الدول والحكومات والقضايا ذات الصفة الكبرى، فهذه قضايا لها قناة رسمية معروفة.

واما الفتوى المتعلقة بعامة الناس، كمسائل المقاطعة او بعض النوازل الاقتصادية، والتي تترتب عليها امور تتعلق بمصالح الناس، وتدرأ عنهم المفاسد، ويترتب عليها عمل جماعي ينتظم كثيرا من الناس، فهذه الفتوى محصورة فيمن عينهم الامام ليشاركوه اصدار الفتوى فيما يقوم به من عمل يختص به كمسائل الجهاد، وما يتصل بمصالح المسلمين عموما، لأنه يتعذر في المسائل العامة العمل بقولين مختلفين والجمع بين المتضادين، بخلاف ما يعمله افراد الناس، في امور العبادة والتعامل، فكل يعمل بما ترجح لديه ولا يترتب عليه فساد او خلل.

من اجل ذلك، فإنه ينبغي لمن لم يثق بنفسه، ولم يلمس منه القدرة على فهم الحكم الشرعي على وجهه الصحيح المستوفي لكل جوانبه، ان لا ينصب نفسه مفتيا، فيضل نفسه، ويضل معه الاخرين، وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ان الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من قلوب الناس، ولكن بموت العلماء، فإذا لم يبق عالم، اتخذ الناس رؤوسا جهالا، فسألوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا».

نسأل الله لنا ولكم الهداية والوقاية..

* فقيه سعودي ومستشار قضائي

في وزارة العدل السعودي