في طفولتنا: كل شيء صغير جامد ثابت!

TT

كثيرون سألوني كثيرا: كيف استطعت أن تعيش في الريف المصري القديم. وكانت الدنيا ضيقة خانقة وكانت المدرسة أو الكتاب ـ بتشديد التاء ـ تحت الأرض.. ولكننا لم نره كذلك. فهو مثل كل شيء آخر اعتدنا عليه ولم نعرف غيره. فلا رأيناه دميما حقيرا، وإنما هو جزء من اللوحة الطبيعية التي وجدنا أنفسنا فيها.. كل شيء ثابت في مكانه لا يتغير.. الشمس مشرقة من هنا من وراء شجرة كبيرة وبين نخلتين ونعرف من هناك وراء قرية بعيدة.. تعكس أشعتها على الترعة. وعند الترعة يكون الفلاحون في حقولهم وحولهم طائر أبو قردان الأبيض وهو الطائر الفرعوني أبيس. ساقاه طويلتان ومنقاره أيضا. وهذا الطائر هو الذي علم الفراعنة أسلوب الحقن الشرجية. فعندما يصاب بالإمساك يملأ منقاره بالمياه ويدخله في مؤخرته، ومن المعروف أن مخلفات طائر أبو قردان كأنها مخلوطة بالصمغ إذا سقطت على الملابس أحرقتها، وإذا سقطت على السيارات خرجت منها بصعوبة.

ولم نكن نعرف أن هناك حياة أفضل.. أو مدارس صحية.. لها نوافذ وأبواب فوق سطح الأرض. ولا عرفنا الشوارع المرصوفة ولا النظيفة. ولا عرفنا اللعب.. فالشارع هو ملتقى كل شيء. الأكل والشرب واللعب والخناق.. والذي تسميه في الريف شارعا ليس هو الذي في المدينة.

ومع ذلك كنا نرى الدنيا كبيرة واسعة. وأنا كنت أرى شارع السكة الجديدة في مدينة المنصورة واسعا جدا. تماما كالشوارع التي رأيتها بعد ذلك: شانزليزيه في باريس.. وفياناسيونالي في روما.. وأفنيو خمسة في نيويورك.. وجنزا في طوكيو.. وكرفر ستدام في برلين.. ولما عدت إلى المنصورة بعد أن رأيت القاهرة وجدت الشوارع ضيقة جدا. كيف كنا نراها واسعة يصعب عبورها؟!

وعندما كنا صغارا كانت دنيانا كبيرة واسعة.. وعندما أصبحنا كبارا صغرت شوارع الطفولة والبيوت.. والمدرسون والناس. وكان الخفير أقوى رجل والعمدة ملك الكون.. والمثل الذي يقول: من رضي بقليله عاش، وقد عشنا ولم نكن نعرف أن هذا الذي عندنا قليل أو كثير. إنه هكذا وبس، ونحن اعتدنا عليه، لا رضينا ولا غضبنا، إنها هو وكل حياتنا ودنيانا هي هي، لا تغيرت ولن تتغير.. فقط عندما انتقلنا إلى المدن عرفنا الفرق وعندما سافرنا إلى الخارج عرفنا الفوارق بين أجمل وأعظم ما لدينا. وما لدى الآخرين.. ومن هذه المقارنة جاء القلق والسخط والرغبة في التغيير وكلها من المعاني الجديدة علينا، وهي بذور الغضب والتمرد والثورة بعد ذلك!

وعندما كنا نتساءل ونحن صغار عن البيوت البعيدة أو القرى النائية: هل هم أناس مثلنا؟ ولماذا لا يجيئون يلعبون معنا؟ ولم نكن نجد ردا مقنعا، وإنما الناس يضحكون ولا يقولون شيئا. كأن السؤال لا معنى له ولا ضرورة ما دام لا أحد يرد أو يحاول ذلك. وإنما كنا نبلع الأسئلة مع الدهشة ونسكت، كما سكت كل شيء آخر: الأشجار والقنوات والطيور، هذه حدود الأشياء وحدودنا، وقفت الأشياء وكذلك عقولنا. سعداء؟ تعساء؟ لا هذا ولا ذاك وإنما اعتدنا على الدنيا، واعتادت علينا.. فنحن جزء من قدرنا المؤجل..