بين الطحاوي و«الهيرالد تريبيون».. الإعلام أيضا ضحية

TT

بينما كنت أبحث عن قناة الـ«بي. بي. سي» في لندن لمشاهدة إحدى مباريات كأس العالم، استوقفتني صورة في نشرة أخبار إحدى القنوات فيها لقطة لموقع «القاعدة» في العراق حيث يتبنى فيه واحدة من عمليات الاختطاف. ما لفت انتباهي هو عبارة «خبر عاجل» المكتوبة في موقع تنظيم «القاعدة» الإرهابي. فالمصطلح إعلامي بحت، تجده على شبكة «سي. إن. إن» آو «العربية» أو حتى «فوكس نيوز»، وهكذا، لكن جنود الظلام يستخدمونه للإعلان عن جرائمهم. فالمحتوى لا يمت أساسا للإعلام، وان كانت اللغة إعلامية.

تذكرت هذا الموقف وأنا أقرأ مقالا للسيدة منى الطحاوي قبل أيام في صحيفة «الهيرالد تربيون»، تصب فيه جام غضبها على صحيفة «الشرق الأوسط». فالزميلة الطحاوي لم تكن تكتب رأيا، بل قدمت بعض المعلومات الكاذبة، جملة وتفصيلا. وفرق كبير بين الرأي والكذب.

في مقالها تقول إنها منعت من الكتابة في الصحيفة بناء على تعليمات من الحكومة السعودية، وبطلب من الحكومة المصرية، بسبب مقال كتبته تنتقد فيه الانتخابات في مصر، والرئيس مبارك. وتقول إن «الشرق الأوسط» تقدم نفسها على أنها الصحيفة التي تتبنى الكتاب الممنوعين من الكتابة في بلادهم.

ثم قالت: إننا نسير على خطى الراحل ياسر عرفات في موقعنا الإنجليزي، حيث ننشر باللغة الإنجليزية ما لا نستطيع نشره باللغة العربية فقط لنبهر الغرب! إلى أن وصلت إلى قولها بأن الخط الأحمر في الصحيفة هو السعودية وحلفاؤها، باستثناء دولة قطر!

حسنا.. هذا كل ما قالته السيدة طحاوي في مقالها المليء بالكذب والمغالطات، وردي هنا كما يلي:

أولا قولها بأنها منعت بناء على طلب من الحكومة المصرية، كذب صريح! نعم كذب. فلم نتلق اتصالا واحدا، أنا كرئيس تحرير، أو نائبي، ولم يناقشنا أحد بالموضوع على الإطلاق، لا من الحكومة المصرية، أو حتى المقربين لها، بل ولا حتى عتاب.

فالسيدة الطحاوي ليست الوحيدة التي كتبت عن الشأن المصري بطريقة نقدية من المؤكد أنها لا تروق لوجهة النظر المصرية الرسمية. فهناك الدكتور مأمون فندي، والأستاذ فهمي هويدي، والدكتور عمرو حمزاوي، ناهيك من الأخبار، والتحليلات، والمقابلات، ولو كان المقام يسمح لضربت الأمثال، بل إنني طلبت من أحد الصحافيين الأميركيين الذي هاتفني مستفسرا عن مقال الطحاوي بتكليف شخص ما، مراجعة تغطية صحيفتنا لمصر والدول العربية كلها من دون استثناء، ليرى حجم المغالطات في ما قالته السيدة الطحاوي، فنحن لا نترصد دولة على حساب أخرى. وهنا نستغل الفرصة لنشكر الحكومة المصرية على سعة صدرها!

الأمر الآخر، وهو المضحك المحزن، أن المقال الذي كتبته وهاجمت فيه الانتخابات والحكومة بمصر، نشر في صحيفة «الهيرالد تريبيون» نفسها، وليس في صحيفتنا، وكان المقال في تاريخ 22 ديسمبر 2005، بينما آخر مقال كتبته في «الشرق الأوسط» كان في تاريخ 28 فبراير 2006! أي أنها كتبت سبعة مقالات بعد ذلك المقال في صحيفتنا، ثلاثة منها فيها انتقاد للحكومة المصرية!

أما قولها إن «الشرق الأوسط» تقدم نفسها على أنها الصحيفة التي تستكتب الكتاب الممنوعين، فهذا كذب صريح، وافتراء. لا نؤمن بالبطولات المزيفة، ولا الشعارات، وما فتئنا نردد أننا مع الكلمة المسؤولة.

لماذا؟ لو كنا نصدر في نيويورك لراعينا قوانين أميركا، ولأخذنا بالاعتبار العوامل الاجتماعية والدينية، وكذلك الاقتصادية، مثلنا مثل الصحف الأميركية الصادرة هناك. ولأننا نصدر في لندن، وننشر في أكثر من ثلاثين بلدا، فنحن في نفس الوقت، نتعامل مع اثنين وعشرين قانونا وتنظيما في العالم العربي، ناهيك من التركيبات الاجتماعية المعقدة!

وفوق هذا وذاك نراعي القانون البريطاني. ولذلك دائما ما نردد أننا لا نلعب بمصداقيتنا، لا نقولها تبجحا، بل لأن الحواجز التي تقابلنا أكبر من أن تعد وأن تحصى. وهذا عملنا، وهذا سر متعته.

وسبق للصحيفة أن منعت في سورية، واليمن، والسودان، ومنعت في العراق لمدة ثلاثة عشر عاما، أيام صدام، وأغلقنا مكتبنا في بغداد قبل عام بعد تهديد بتفجيره وإيذاء العاملين فيه. ورفعت على صحيفتنا قضية من قصر الرئاسة في لبنان.. أي أننا دفعنا الثمن.

ونتلقى تهديدات صريحة بالقتل، والمتطرفون يكفروننا صباح مساء. أقول كل هذا لأن السيدة الطحاوي أخطأت العنوان وهي تبحث عن البطولات والمزايدة، والظهور بمظهر الضحية. ونحن لا ندعي أننا نقدم الحقيقة كاملة، أو أننا نمتلكها تماما، بل كما يقول رئيس تحرير «الواشنطن بوست» السابق الرائع بن برادلي «نحاول الوصول الى الحقيقة بأقرب شكل ممكن».

ولكي تؤكد الزميلة الطحاوي على مصداقيتها المفقودة في ذلك المقال الذي سخرته للهجوم علينا، تقول إن موقعنا باللغة الإنجليزية ينشر ما لا ننشره بالعربية، وللتأكيد على ذلك استشهدت بحالة واحدة منذ عام 2004، حدثت معها في مقال واحد فقط. وكان ذلك المقال مع انطلاق الموقع، وسبب الخطأ الذي وقع أن السيدة الطحاوي لا تكتب باللغة العربية بل نقوم بترجمة مقالها من الإنجليزية للعربية، وبناء على ذلك وقع الخطأ، وقامت السيدة الطحاوي في حينه بمكاتبة الزميل المسؤول عن الموقع، ورد عليها كتابيا معتذرا عن الخطأ، وقال لها «إنها غلطتي، وأتحملها»!

فهل تكرر الخطأ؟ لا أعتقد، وإن كان فلماذا قبلت كل هذه الفترة؟ والمحزن أن الزميلة الطحاوي كتبت لمسؤول الموقع في تاريخ 17 أكتوبر 2005 تطالبه بإشعارها في حال كان هناك من يرغب بإعادة نشر مقالها المنشور لدينا، حيث تقول بالحرف الواحد في رسالتها الإلكترونية «أحيانا أعيد كتابة مقالاتي المنشورة في «الشرق الأوسط» لأعطيها بعدا اميركيا، وأرسلها لصحف اميركية».

وفي رسالة أخرى بتاريخ 11 أكتوبر 2005 تقول: «إن «الشرق الأوسط» الإنجليزية تفتح آفاقا مع القراء الغربيين، وسيكون أمرا مؤسفا لو فقدناهم (أي القراء). لقد رأيت كثيرا من مواقع المدونات توصل «الشرق الأوسط» بالإنجليزي مع مواقعها. وهذه طريقة عظيمة لنجعل القراء في الغرب يطلعون على آراء لم يتوقعوا إطلاقا رؤيتها في صحيفة عربية»! هذا نص رسالتها، البريدية وليس مكالمة هاتفية! فرحم الله أبو عمار الذي لم يعترف يوما بالأبعاد المختلفة في خطاباته كما اعترفت زميلتنا الطحاوي.

أما عن الخطوط الحمراء التي تستثنى منها دولة قطر، فهذه نكتة تعودناها، وأصبحت لا تثير فينا الضحك. ففي مقال لها بتاريخ 7 فبراير 2006 في صحيفتنا أثنت الطحاوي على الشيخة موزة المسند حرم أمير قطر، والتي نحترمها ونقدرها، وامتدحت قناة «الجزيرة»، التي أختلف معها، وهذا أمر معلوم! فأين الخط الأحمر؟

وإذا كنا نحجر على الآراء كما تزعم، فالرد على هذا القول أتركه للسيدة الطحاوي التي كتبت بتاريخ 8 فبراير 2004 تقول «لقد أثار مقالي عن العملية الانتحارية التي نفذتها ريم الرياشي، التي جندتها حركة حماس، ردود فعل غاضبة من القراء. وبدلا من إيراد تلك التعليقات فإن الأفضل أن ترجعوا بأنفسكم إلى المقال على موقع الصحيفة بالإنترنت وتقرأوا تعليقات القراء هناك. لكنني سأورد هنا تعليقين فقط يؤيدان وجهة نظري. وأنا لا أفعل ذلك لأنهما أيدا وجهة نظري، بل لأفتح مجال التعبير لآراء بدأت تظهر في «الشرق الأوسط»». هذا نص ما كتبته!

وقد يتساءل البعض: لماذا لم ينشر ردي هذا في صحيفة «الهيرالد تريبيون»؟ والإجابة أن هناك خيبة أمل أشعر بها من الطريقة التي تعاملت بها «الهيرالد تريبيون» مع الموضوع، حيث لم تكلف نفسها مشقة الاتصال للتأكد من المعلومات الكاذبة التي احتواها المقال، وهذه أبسط قواعد المهنية التي كنا نعتقد أن «الهيرالد تريبيون» تفوقنا فيها، ولكن ظهر العكس.

وهنا أذكر صحيفة «الهيرالد تريبيون» بموقف يظهر حرصنا الشديد على مهنيتنا، وسأدع السيدة الطحاوي ترويه لهم، حيث كتبت في مقال لها في «الشرق الأوسط» بعنوان «مسألة التشهير الإعلامي» في تاريخ 15 مارس 2004 تعترض فيه على نشر صحيفة «النيويورك تايمز» صور جثث القتلى في العراق، وشرحت فيه ما دار بينها وبين مسؤول الرأي في صحيفتنا ذلك الوقت، حيث تقول «كتبت إلى رئيس قسم الرأي، الزميل بكر عويضه، لأخبره بأنني أريد أن أحول غضبي إلى كلمات أنشرها في مقالي الأسبوعي. وقد شجعني على الكتابة، لكنه طلب مني أن أعود إلى دور المراسلة الذي كنت أؤديه، وأن أستفسر «النيويورك تايمز» حول السبب الذي دعاها لنشر هذه الصور؟ لا أستطيع التعبير عن امتناني الكامل لبكر عويضه، وليتني توجهت بذلك السؤال إلى «النيويورك تايمز» من قبل؟ ومع أنني ما زلت معترضة على نشر تلك الصور، إلا أن سماع الخلفية القابلة للتفهم، التي استندوا إليها، خفف من غضبي نوعا ما».

وهنا تظهر مهنيتنا وأخلاقياتنا الصحافية، مقارنة بصحيفة «الهيرالد تريبيون»، فالكلمة مسؤولية. وأجد نفسي هنا مضطرا لاقتباس العبارة الشهيرة فأقول: لا يحزنني أن السيدة الطحاوي تكذب، بل ما يحزنني هو أنني لم أعد أصدقها.

[email protected]