على مذهب أحمد بن حنبل

TT

في صيفية من الصيفيات كنت أقضي وطري في جنوب إسبانيا، واتصل بي أحدهم يدعوني إلى وليمة عشاء في منزله العامر، فلبيت الدعوة فوراً قبل أن يبدأ كلامه، فمن هو المعتوه الذي لا يلبي دعوة ذلك الرجل الفحل، خصوصا أنني أعرف مدى براعة وموهبة زوجته حفظها الله في لف ورق العنب، وحشو الكوسة، وتقميع البامية، والتفنن بزنود الست، التي كل زند وزند ما شاء الله، يأكل الواحد أصابعه بعدها.

ذهبت إلى ذلك المكان سيراً على الأقدام رغم أن المسافة كانت لا تقل عن عشرة كيلومترات، أولاً (لتطليق) أقدامي وتعويدها على الرقص، وثانياً لتمتيع عيني برؤية الصبايا البريئات اللاتي يمارسن رياضة (الجوغينغ) بكل عفرتة ولذاذة، وثالثاً من أجل أن أهضم البقية الباقية من شريحة (البيتزا) التعيسة التي التهمتها سريعاً على الواقف في أحد المطاعم الشعبية. وعندما وصلت إلى المنزل العامر، وجدت باب الحديقة مفتوحاً على مصراعيه، فتقدمت واثق الخطوة، ومنشرحاً ومغتبطاً كذلك، ولم يكدر عليّ صفوي غير نباح وهجوم كلب الحراسة نحوي، ولولا أن الحارس الإسباني كان قريباً لوليت الأدبار فراراً، وكانت فاتتني (العشوة)، وبت على الطوى، ولكن الله سبحانه وتعالى أوجد ذلك الحارس أمامي لتكتب لي تلك الرزقة أو (اللقمة)، ولأملأ معدتي المحدودة الحجم بكل ما لذ وطاب.

دلفت ـ أي دخلت ـ إلى الصالون الكبير المكتظ بالرجال والنساء والموسيقى والهرج والمرج والروائح التي تتراوح بين أرقى ماركات العطور، وبين أسوأ ما يخرج من الإنسان، المهم أنني كتمت أنفاسي وتوكلت على الله ودخلت، وكان الرجل الكريم واقفاً هو وزوجته المحجبة المصونة يرحبان بكل قادم، فصافحت الزوج، ثم مددت يدي لكي أتشرف بمصافحة الزوجة، غير أنها لم تمد يدها لتصافحني، فظلت يدي مع ذراعي ممدودة في الهواء كأي (شحاذ)، فأخذت أردد نظراتي بين السيدة وبين يدي وكأنني أقول لها: (أرجوك)، غير أن السيدة كانت تبادلني النظرات بكل احترام وتهز رأسها بلطف وكأنها تقول لي: (مش ممكن)، أصابني كسوف ما بعده كسوف، ومع ذلك ظلت يدي ممدودة دون أن أنزلها، فما كان من زوجها إلاّ أن تناول يدي ليصافحها مرّة أخرى، وكأنه يقول: يا أخي (فارق تراك طولتها)، وفعلاً فارقت ووجهي (بالأرض).

والذي ذكرني بهذه الحادثة هو ما قرأته في إحدى الصحف من أن إمام مسجد في (لاهاي) في هولندا، عندما مدت الملكة (بياتريكس) يدها مثلي تماماً تريد مصافحته، رفض أخونا بالله مصافحتها خوفاً من أن تنقض الملكة وضوءه، وقد عاتبه على فعله هذا رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء، وقال: إنه كان من الخطأ عدم مصافحة الملكة حتى لا تعطي الفرصة لليمين المتطرف بمهاجمة المسلمين ونعتهم بالانغلاق، وأن يعتمدوا إجازة مصافحة المرأة الأجنبية مثلما أجازها الإمام أحمد بن حنبل.. وقد أجاز ذلك أيضاً الشيخ عبد الله المنيع كما ورد في جريدة «الوطن» عندما قال: «إن الأصل هو تحريم مصافحة الرجل للمرأة إلا في الحالات الاستثنائية التي تقتضيها مصلحة المسلمين»، ولا أدري ما هي تلك الحالات الاستثنائية، هل من ضمنها إجازة مصافحة المرأة عندما تكون ميتة مثلاً، أو عندما تكون على وشك الغرق في البحر، ولا بد من الإمساك بيدها لانتشالها ـ أي مصافحتها ـ؟!

على أية حال أنا رجل (حنبلي) المذهب والنزعة، وسوف أصافح كل أنثى بعنف بالغ لو أنها شرفتني ومدّت لي يدها.

آسف، لا بد أن أستدرك وأقول: ليس كل أنثى، وإلاّ تصبح مصيبة.

[email protected]