(النزاهة الفكرية) العاصمة من تحريف الكلم عن مواضعه

TT

يستحيل أن تستقيم حركة التفكير بدون (النزاهة الفكرية). ذلك انه ليس من المستطاع: التوصل إلى الحقيقة، وإدراك الصواب في ظل سيادة الانطباعات والخواطر والانفعالات والتعصبات والتحزبات والتراشق النزق بالتسميات والتصنيفات والألقاب الهواوية العشوائية الكيدية. فهذه كلها (حجب) تحجب الناس عن تبين الصواب الميسور أو الأكثر رجحانا.

ما النزاهة الفكرية؟

إنها ليست أمنية تتمنى: ولا رغبة متموجة أو متقلبة: تنشط حيناً، وتكسل وتخمد أحياناً: بحسب الحالة النفسية السائدة في لحظة معينة.. إنما (النزاهة الفكرية) هي: اختيار المنهج بعلم، ثم التزامه في الرصد والتحليل والاستنتاج.. وفي (التعبير) كذلك.. والمنهج هو:

1 ـ بناء التفكير على (قواعد) واضحة مستقرة: يطّرد التزامها، أي لا يحصل لها تعطيل، ولا يقع فيها انتقاء ولا استثناء.

2 ـ مجاهدة النفس: ابتغاء التحرر من آفتي الفكر العاتيتين الماحقتين وهما آفة (الظن) أو ضآلة الحصيلة العلمية المعرفية.. وآفة (الهوى). فكثير من الناس (من الذين يشتغلون بالثقافة والفكر مع الأسف) يهجمون على القضايا والموضوعات بلا معرفة حقيقية، وبعضهم قد يكون معه قدر من المعرفة، بيد أن آفة الهوى تلتوي بصاحبها التواء يفسد ما معه من معرفة.. هاتان الآفتان أو العلتان هما مصدر الفساد الفكري دوما، ولذلك جاء في التنزيل: «ان يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس».. إن وجود التنوع أو الخلاف الفكري لا يمثل ـ في ذاته ـ أزمة، ولا ينطوي على كارثة تهدد الوجود البشري والإسلام بالانقراض والزوال وإنما تَمثُّل الأزمة في الجهالة المغطاة بقشور المعرفة، وفي الهوى الذي يحمل صاحبه على تحويل الخلاف الفكري إلى حرب تجعل الأفكار (قنابل)، وخطوط الحوار (أسلاكا شائكة).

3 ـ الالتزام بـ (الموضوعية)، أي بالقضية المطروحة للبحث والمناقشة، فإن التركيز على الموضوع نفسه: لا يفسح المجال لسلبيات غير موضوعية.. ما معنى.. ما مقضي إقحام كلمات نابية في خلاف موضوعي حول العولمة أو المرأة أو الهندسة الوراثية؟!.

4 ـ الأسلوب المهذب أو التعبير العف، فإن الفكر المعرفي الأصيل الجميل لا يُخدم بالسباب، وكأي من كاتب. من عالم، من مثقف شوه الحقيقة التي يعرفها ويعرضها: بأسلوب يصد، ولا يجذب، وبتعبير لا يوفر الهدوء العلمي، ولا المناخ المناسب.

5 ـ الاجتهاد المثابر المستبصر في تطبيق (المعرفة العلمية) في حقل العلوم الاجتماعية والإنسانية. فاستصحاب هذا المنهج العلمي في هذا الحقل يحقق مقادير عالية من (النزاهة الفكرية)، بمعنى انه يورث صاحبه تحررا نبيلا من الهوى والتحيز والتعصب.. مثال ذلك ان كارل بوبر (من مفكري القرن العشرين البارزين) طبق نظريته الموجزة في «أن الكشف العلمي يكون فيه من المعرفة الحقة بقدر ما يكون قابلا للاختبار الجاد المتمثل في النقد والنقض والتكذيب لما يجب تكذيبه».. طبق نظريته هذه في مجال العلوم الاجتماعية والسياسية. فتحرر بهذا التطبيق (وهو يهودي الأروقة) من (التعصب الصهيوني)، وهو تحرر عبر عنه بوضوح في قوله: «إن مسلمة الإياب إلى أرض الميعاد هي مسلمة وهمية، وان كل الدعاوى العرقية والعنصرية شر مستطير، والصهيونية لا تُستثنى من هذا».

6 ـ الترفع عن خطيئة خداع الناس والتغرير بهم في مجال الفكر من خلال عبارات وجمل وتعميمات مضللة مثل: «من المعروف أن..»، وهي عبارة كان ستالين يستخدمها كثيرا للايهام بأن الأمر مفروغ منه!! أو لتخويف اعضاء اللجنة المركزية بأن يوافقوا على (ما هو معروف) بدون مناقشة وإلا..!!.. ولقد سمعنا ممثلا في أحد الافلام العربية يقول: «ان الكومبيوتر لا يخطئ»، وهذا تصور خرافي للتكنلوجيا يضلل فيه كاتب القصة جمهور المشاهدين، بينما الحقيقة هي: ان الكومبيوتر يخطئ.. ومن اساليب التغرير الفكري بالناس قول بعضهم: «لا خلاف في كذا..».. في حين ان الخلاف موجود.. وقول بعضهم ـ كذلك ـ: «ان التزمت سمة ملازمة للمتدينين».. في حين ان التزمت سلوك متنطع ينتظم شرائح من غير المتدينين، سواء كانوا سياسيين او كتاب قصة او دعاة عنصرية او باحثين في مراكز دراسات استراتيجية.. وقول قوم آخرين: «الليبراليون جميعا عملاء لـ سي. اي. ايه».. وهذا تعميم خاطئ تنقصه المعرفة والعدالة والنزاهة.. ان هذه الاساليب والتعميمات (تغرير فكري) بمتلقي الرسالة الفكرية الاعلامية، سواء بُثت هذه الرسالة في التلفزة او الصحف او في اي شكل اعلامي آخر.

وهنا (نموذج واقعي) لقياس التزام (النزاهة الفكرية)، والشرود منها.

بأمانة ومسؤولية وفطنة: صدع الملك عبد الله بن عبد العزيز بما يردّ الحركة الفكرية السعودية الى اصولها المستقرة (شريعة الاسلام ووحدة الأمة والوطن). واقتضى تقرير هذه الحقائق: نقض ما يضادها من تصنيفات وتسميات وألقاب من مثل: علماني.. وليبرالي.. واسلامي متطرف.. وهذا مسلك مفعم بالمسؤولية الاسلامية والوطنية، مترع بالاستنارة. فحين ينشب خلاف ما بين الناس، فان عقلاءهم الكبار يردونهم الى (الثوابت اليقينية) التي قد يذهل عنها المخهاتف: ذهول نسيان او ضعف احساس او ذهول هوى.. ونحن ضد (الاسراف في القول بالثوابت)، فليس كل ما يطرح ويقال من آراء الناس: يرقى الى (مرتبة الثوابت). فهذا ابتذال للثوابت من جهة، ورفع لاصحاب الآراء الى مقامات هم دونها بالتوكيد من جهة اخرى. ولذلك رفض الامام مالك: ان يتخذ (موطؤه) ثابتا من ثوابت الدولة في المصدرية والشمول والالزام. بيد ان ثمة (ثوابت حقيقية) لا يصح ولا يجوز المراء فيها وهي: عقيدة التوحيد.. وشريعة الاسلام.. والوحدة الوطنية.. والأمن الوطني.. والسيادة الوطنية والمصالح الحيوية التي لا تقوم حياة الناس الا بها.. والسعوديون ليسوا (بدعا) من الناس في هذا الامر. فلكل أمة من أمم الارض (ثوابتها) التي تنص عليها دساتيرها، وتتكفل مناهج التربية الوطنية بتربية الاجيال على مكانتها ومضامينها: الهند.. الصين.. بريطانيا.. فرنسا.. اسرائيل.. المانيا.. اليابان.. الولايات المتحدة الأميركية.. الخ. واذا اخذنا الاخيرة كمثال، فإن من الثوابت المستقرة لدى الأمة الأميركية: الدستور.. والاتحاد الفدرالي.. والأمن القومي.

على الرغم من وضوح هذه الحقائق، فإنه من المحزن ان نقول: ان اطرافا عديدة ذهبت في تفسير كلام الملك كل مذهب، وحاولت ضغطه فيما تريد وتهوى.. ومن دلائل فقدان النزاهة الفكرية: مباشرة محاولات تدليسية توهم او توحي بأن الملك (منحاز) الى هذا الطرف او ذاك، في حين ان كلامه واضح جد واضح، فهو ليس اقرارا لاوصاف علماني وليبرالي واسلامي متطرف. فقد وردت هذه التصنيفات كلها في سياق النقد والنقض والرفض: بالمقياس الشرعي، والمعيار الوطني.. يضاف الى ذلك ان رأس الدولة اكبر من ان ينحاز الى تيار (جزئي)، لأن (الكل) عنده سواء في الاسلامية والمواطنة.. ولئن كانت الاطراف المتشاكسة (تتبادل الذهول) عن ان الذي يسمونه (ليبراليا) هو انسان ومواطن، وان الذي يسمونه (متطرفا دينيا) هو انسان ومواطن، فإن الملك يٌعدّ المختلفين اجمعين: ناسا مواطنين.. وعبارته دقيقة في ذلك.

ثم انه من صميم (النزاهة الفكرية): استصحاب المنهج الموضوعي العلمي في تفسير الكلام. ومن أثبت قواعد هذا المنهج ـ ها هنا ـ:

أ ـ تفسير الكلام وفق مراد قائله، لا وفق اهواء المستمع والمحلل او المفسر، ولو زاغ الناس عن هذا المنهج ما فهم كلام قط على حقيقته، بل يكون الأمر على نحو ما قيل: أقول له: عمرو فيفهم خالدا.. ويكتبها بكرا وينطقها زيدا «!!».. والمراد يتبين في الفقرات الآتية:

ب ـ تفسير الكلام وفق طريقة (تحليل المضمون) للكلام ذاته: دون إدارج ولا دس.. وخلاصة مضمون الكلام الملك: الانتصار للاسلام الجامع، والوطنية الحاضنة، ونقض كل ما يخالف ذلك من مفاهيم وشعارات وتسميات وتصنيفات.

ج ـ تفسير الكلام في ضوء الأسس العامة للدولة والمجتمع وهي أسس اصلها وفصلها دستور البلاد او النظام الأساس للحكم.

د ـ تفسير الكلام في ضوء (العقد الاجتماعي) بين الحاكم والمحكوم و(البيعة) على الكتاب والسنة وعلى استعمال كافة الوسائل والأخذ بجميع الأسباب التي ترعى المصالح العامة، وتنهض بالأمة نهضة تقويها وتعزها وترقي بها في سائر المجالات.. هذه البيعة هي العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم.. بمقتضى هذا المنهج في تفسير الكلام، يبدو العوج الفكري في التفسيرات التي شردت عن النزاهة الفكرية واستدبرتها.

ما الحل الفكري؟.. الحل هو أولا: وضع الكلم في مواضعه دون تحريف او ادراج او دس.. ثانيا: حين يوضع الكلم في مواضعه فإن (المنطق العلمي) المترتب على ذلك هو:

1 ـ مزيد من الثبات على (الثوابت اليقينية) الجامعة فالاسلام دين حق معصوم من الخطأ والتحريف، ودين نافع وجميل وليس (وجهة نظر) حزب او تيار والضيق المشروع بالغلاة لا يجيز ـ قط ـ الضيق الضال بالاسلام نفسه.. وفي منهج العقلاء الراشدين: لا يترك المبدأ الصحيح بسبب سوء التطبيق على ايدي سفهاء او مجانين.

2 ـ مزيد من الركض اللاهب المتقد الممتع في طريق التقدم والرقي. ولا تعارض ـ قط ـ بين المسارين، بل بقدر الاستمساك بالثوابت والفهم السديد لها، تكون (قوة الانطلاق) الى امام والى اعلى، فقوة الانطلاق إنما تعتمد على (القاعدة المتينة) للانطلاق.

ويقتضي هذان الخطان المتوازيان: ابتدار المجاهدة الفكرية ضد كل من يقف في طريق التقدم باسم الاسلام وكل من يوهم الناس بأن الاسلام، وكل من يوهم الناس بأن الإسلام (عقبة) في طريق التقدم.