يا لها من قضية: دعم الإرهاب بالتنافس في مضمار التخلف

TT

قبل الرئيس جورج بوش، وأمام نقاده الاوروبيين في قمة فيينا، ان معتقل جوانتانامو كان فكرة خاطئة تسببت في أضرار كثيرة، ولم تفد في مكافحة الإرهاب، والذي لا بد للعالم ان يبحث عن اجابات لمشكلته. والى جانب الخسائر البشرية، فلتفجيرات الإرهاب شظايا سيكولوجية تتساقط على المجتمعات لغرض استراتيجي أكبر هو تشويه وجه المجتمع فلا يمكن التعرف عليه.

والهدف الاستراتيجي للإرهابيين واحد، وان اختلف التكتيك وردود الفعل، بين المجتمعات الشرقية والغربية، وان تماثلت في ارتكابها للأخطاء.

فصدمة الحدث ـ نيويورك، مدريد، أو في لندن ـ في مجتمعات لم تختبر هذا النوع من الإرهاب، تفرز رد فعل غاضبا وذعرا وهرولة، تدفع الديموقراطيات الغربية لخطوات تساعد الإرهابيين على تحقيق أهدافهم الاستراتيجية.

فالمجتمعات تتردد في اتخاذ الخطوة المناسبة، ويتلعثم خطابها السياسي، وأوجه التعبير الأخرى، صحافة وثقافة وفنونا؛ وتتنازع طوائف المجتمع، وتياراته السياسية المختلفة. ويستبدل المجتمع الاتفاق، على خطة عمل فاعلة، بالاستغراق في الاستبطان وإعادة فحص الثوابت والشعور بالذنب.

بوليس لندن تخبط بقتل البرازيلي البريء جين ـ تشارلز ديمينزيس في يوليو الماضي، وفي مهزلة مداهمة 250 رجل بوليس (منطقة فورسيتغيت) يوم 2 يونيو، وإصابة بريطاني مسلم برصاص البوليس في كتفه، واعتقاله وشقيقه، وتفتيش المنزل من دون العثور على شيء.

وفي مؤتمرهما الصحفي بعد الإفراج عنهما، تحدث الشقيقان ابو القهار كيلام، وابو القيار كيلام، عن طريقة اقتحام البوليس للمنزل عند الفجر، بطريقة أعادت للذاكرة شرور جستابو هتلر، وبوليس الطاغية ستالين. وتوحدت التيارات الليبرالية والوسطية واليسارية الإعلامية في تذكيرنا بأننا سنقدم النصر للإرهابيين على طبق من عظام حريتنا اذا سمحنا للبوليس باستخدام وسائل قوى شر شمولية. حارب الأجداد النازية، وضحى الآباء في الحرب الباردة ضد الستالينية، حتى يتجنب جيلنا الحالي الوقوع في براثنها.

وعلى بعد 4000 ميل من لندن، شنق ثلاثة من المعتقلين في جوانتانامو انفسهم في زنازينهم ، فوصفت كولين جرافي، نائبة مساعد وزيرة الخارجية الأمريكية الحادث «بأنه محاولة علاقات عامة من المعتقلين للدعاية»، بأسلوب امريكي معتاد تندفع فيه الكلمات الطائشة من قلب المسؤول الى فمه من دون أن تمر بفلتر المخ.

وإلى جانب فساد ذوق تصريح المدام جرافي، فإنها نبهت العالم الى حقيقة تحول معتقل جوانتانامو، منذ تأسيسه، الى أسوأ دعاية للإدارة الامريكية، وكارثة علاقات عامة للرئيس بوش، وإعلان مستمر لواحدة من أفدح إخفاقات سياسته.

وتتجاوز الكارثة وقوع المسؤولين في أخطاء تبني الأمن لوسائل فاشية ونازية كمداهمة المنزل في فوريست غيت، أو حبس المشتبه فيهم في ظروف غير انسانية في جوانتانامو، الى تراجيديا طويلة الأمد بتغيير نمط حياة التسامح الليبرالي المتحضر نفسه.

فقد أوقعت أمريكا نفسها في غيتو الحصار السيكولوجي وهوت معاملة زائري امريكا في المطارات الى حضيض معاملة المسافرين في مطار بن غوريون في تل ابيب ومطارات ديكتاتوريات العالم الثالث. ودخلت الوكالات الأمريكية في نزاع مع شركات الطيران الاوروبية بإصرارها على الاطلاع مقدما على أسرار حياة المسافرين بشكل ينتهك القوانين المدنية الاوروبية؛ وأسفرت استطلاعات رأي أوروبية عن اعتقاد أغلبية الناس بأن خطر امريكا على أمن العالم يفوق خطر «القاعدة».

ووصل التلعثم الثقافي والتردد في الخطاب السياسي في بريطانيا، حد التخبط في سياسات التعليم والتعامل مع الاقليات. فقد استجابات إدارات مسارح لاعتراضات غوغاء ومهووسين دينيين ومنعت عروضها، ودعمت تيارات يسارية ضرب تلميذات قاصرات عرض الحائط بلوائح الزي والانضباط المدرسي بحجة احتفاظهن بلباسهن الثقافي الديني، وجبن المسؤولون عن كشف زيف هذا الادعاء.

وهرولت حكومة حزب العمال الجديد، بزعامة توني بلير، الى إصدار قوانين تهدد الحريات وتزهق ثمار كفاح ثمانمائة عام من تضحيات الليبراليين والديموقراطيين من أجل سيادة القانون.

وإذا لم تنتبه الديموقراطيات الغربية الى الفخ المنصوب بهذا التلعثم الثقافي والاجتماعي والسياسي، فستحقق للإرهابيين اهدافهم الاستراتيجية من دون مقابل من جانبهم. وتصبح كطبيب قليل الخبرة عالج المريض بوابل من المضادات الحيوية التي دمرت جهاز مناعته، وسيل من المطهرات خنقت جهازه التنفسي، فأبقاه حيا بتحويله الى جسد خامل لا حراك فيه.

وما يحدث في الغرب الآن هو نسخة تطور لكارثة حلت بالشرق. فقد أصيبت المجتمعات، وفي مقدمتها مصر، بهذا التلعثم في كل جوانب الحياة ازاء صدمة تصعيد الهجمات الإرهابية قبل ربع قرن، والآن تحصد ثمن الذعر والهرولة والتخبط في صياغة سياسة واضحة لمكافحة الإرهاب إنقاذا لما تبقى من النسيج الحضاري الاجتماعي.

فالتعامل مع ظاهرة الإرهاب من المنظور الأمني فقط لا يكفي، بل يتطلب تقوية جهاز المناعة القومي في المجتمع، بالتمسك بثقافته وأصالته وعدم منح الارهابيين الفرصة لدفع المجتمع للذعر واتخاذ اجراءات غير مدروسة واللجوء للاستبطان وإعادة النظر في المسلمات والأصول الثقافية، بدلا من اتخاذ إجراء حاسم. ففي الوقت الذي نجح فيه الأمن المصري، وبتضحيات جسيمة، في هزيمة تنظيم «الجماعة الاسلامية» وفروعها الارهابية الاخرى، ودفع «تنظيم الجهاد» وزعيمه ايمن الظواهري الى الفرار الى افغانستان، اخفقت الأجهزة الأخرى في تأمين الجبهتين الثقافية والاجتماعية من تساقط الشظايا السيكولوجية لتشوه وجه مصر، وضد غزو جراثيم الثقافة الدخيلة التي أضعفت جهاز المناعة في جسم مصر. ولأن الحكومة انتهكت الدستور ومواثيق حقوق الإنسان في الحرب على الارهاب، دفعها الشعور بالذنب الى المزايدة على المتطرفين، لتظهر أكثر «إسلاما» وسلفية منهم. وبدلا من فتح المنابر للعلماء المستنيرين لكشف فساد تفسير الأصوليين والسلفيين للدين، منح الاعلام الرسمي فرصة ذهبية لمشعوذين معقدين نفسيا تباهوا بأنهم لم يقرأوا كتابا واحدا غير القرآن، فحرموا الاجتهاد، وتحولوا لمبشرين لدعوة التعصب وكراهية المرأة والحرية وغير المسلمين.

ومنعت الحكومة تأسيس أحزاب وطنية تنادي بالمصرية قبل الشعوذة والدجل باسم الدين. وأعادت لجنة الرقابة السينما والفنون عقودا للوراء، وظهرت موجة مكارثية لمصادرة الكتب ومنع المسرحيات، وتكفير اساتذة الجامعة والأدباء والمفكرين ـ واحيانا الاغتيال ـ ومهزلة دعاوى الحسبة القضائية لتطليقهم من زوجاتهم!

ويحصد المجتمع المصري اليوم مرارة ما أنبته زرع بذور التخلف امس؛ فتتراجع أحزاب كالوفد، الممثل الطبيعي للأمة المصرية بكل طوائفها، ويصبح الاخوان (الرافضون للقومية المصرية بعد سب زعيمهم علنا للأمة المصرية) كتلة المعارضة الرئيسية فيدقون طبول الحرب بالدعوة لإلغاء اتفاقيات السلام، ويتفشى التعصب في المجتمع وتكثر الاعتداءات على الكنائس المصرية، وينجح نفر من مسيحيين رجعيين في مصادرة الكتب (كشفرة دافينشي) ومنع عرض الأفلام تحقيقا للمساواة مع الرجعيين المسلمين، و«محدش أحسن من حد» في مضمار التخلف ومحاربة الثقافة، وبالطبع دعمهم الاخوان، و«بصم» وزير الثقافة بختم التخلف «الميري» على القرار!

ومثلما هو الحال في الغرب الذي عثر، حتى الآن، على إجابات خاطئة لمسائل مكافحة الإرهاب ولتصفية معتقل جوانتانامو (ولا يوجد بلد يقبل معتقليه بما فيها بلدانهم الأصلية)، فإن الشرق، وفي مقدمته مصر، قدم إجابات خاطئة لمشكلات الإرهاب. لكن غياب الإجابات بسبب التلعثم الثقافي والتعثر في خطوات البحث، وإغماض العيون عن المشكلة لن يجعلها تختفي من عالمنا.