كلمة الملك عبد الله .. هل تؤسس لنهضة فكرية توازي نهضة السعودية الاقتصادية ؟

TT

في حديث عفوي شفيف للمواطنين وجّه خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله المواطنين إلى ضرورة التخلي عن التصنيف واللمز بالألقاب، داعياً إياهم بضرورة التلاحم من أجل المصلحة الوطنية التي تشمل الجميع من دون تمييز. هذا الخطاب المهم يأتي في سياق مرحلة جديدة تعيشها المملكة على مستوى النهضة الاقتصادية الشاملة، والتي يجب أن توازيها نهضة فكرية تنظر إلى طبيعة التحولات التي تعيشها المملكة، والتي يجب أن تستثمر التنوع والثراء الفكري إنْ على مستوى التعددية المذهبية أو حتى الفكرية داخل الأطياف الثقافية السعودية.

فـ(التعددية) الفكرية كما يتبناها الإسلام ثمرة طبيعية للحرية المسؤولة التي هي من تمام اختصاص العبودية بالله تعالى وحده دون سواه، هذه التعددية التي تشكلت عبر مستويات مختلفة في مسيرة الفكر الإسلامي بدون أن تطالها أصابع الاتهام أو التجريم، من خلال وصمها بمفاهيم تشي بالسلبية كالكفر والزندقة والبدعة، وبدون أن تطالها أيضاً بوجه آخر مباضع التحيز والاستبداد عبر تطويقها بدوائر ضيقة يزداد استحكام حلقاتها ضيقاً وعنتاً كلما تأزم الخطاب واتجه إلى الخلاص والاستئثار بالنجاة، متذرعاً بأدبيات الغربة والوثوقية التي تجعله يمتطي وهم التميز حتى يكتشف في النهاية أنه يقبع خارج المكان .

إن نظرة عجلى على مسيرة الحركة العلمية والعملية الإسلامية منذ البدايات، وما شكلته من أطياف متنوعة عبر حزمة من الأفكار والتيارات والمذاهب والمدارس الفكرية والفقهية والزهدية، كفيلة بالتحقق من حضور (التعددية) بمعناها البنّاء الذي يعني عدم المساس بقطعيات الشريعة متمثلة في مسائل الإيمان الكبرى، وما يعلم من دين الله بالضرورة من مسائل الأحكام، إضافة إلى القيم الأخلاقية العامة التي جاء الإسلام برعايتها .

إن المشكلة في إساءة تناول وطرح مفهوم (التعددية) جاءت من خلال عوامل كان لها ما يبررها عبر سياقها التاريخي، إلا أنها لا يمكن أن تظل جاثمة على واقعنا المعاصر وما يحمله من تحديات ومسؤوليات تحتم على الخطاب الإسلامي أن يساهم في البناء والإيجابية الفاعلة، تلك العوامل يمكن أن نجملها في ثلاثة مسارات رئيسة :

الأول: إن ثمة نماذج لإساءة استخدام قيمة (الحرية المسؤولة) التي يرعاها الإسلام بل يعتبرها مثل الشيخ الطاهر بن عاشور جنباً إلى جنب مع الكليات الخمس الكبرى، هذه الإساءة التي قوبلت بشكل سلبي حيث خلقت ردة فعل تصادر (الحرية المسؤولة) باعتبارها سبباً في فشل التجربة والممارسة.

الثاني: إن قيمة (الحرية) طرحت في العصر الحديث وتحديداً مع بدايات ما يسمى بعصر النهضة من خلال المنظومة التحديثية التي آلت فيما بعد وتماهت مع النسق الليبرالي الذي لم يفتأ بدوره في إساءة استخدام (الحرية) بشكل لا مسؤول بناءً على الخلفية الفلسفية المادية التي انطلق منها خاصة في أنموذجه الغربي، وهو الأمر الذي ذهب بكل محاولات الإسلاميين التحديثيين أدراج الرياح في محاولة فك الاشتباك بين الحرية الإسلامية المسؤولة، وبين نظيرتها الليبرالية، كما نجده عند مدرسة محمد عبده وإمداداتها حتى وقتنا الحالي .

الثالث : وهو في نظري أهم العوامل التي سببت غياب هذه القيمة هو أن الخطاب الإسلامي منذ بدايات تشكله كمنظومات فكرية لها محدداتها الخاصة عانى وما زال يعاني من الالتباس والتشابك بين قداسة النظرية وبشرية التجربة والممارسة، هذا الالتباس الذي اتخذ أشكالاً مختلفة واقتات على ثنائيات متصارعة كالنص والعقل، والتقليد والاجتهاد، والدولة والشريعة ... إلخ، وهو الأمر الذي يحتاج إلى دراسات منهجية تتسم بالعمق في القراءة والتحليل بدون أن تكتفي بالمعالجة المبتسرة أو الموقف المبدئي الذي لا يعدو أن يكون دافعاً إلى مزيد من الفرقة والاختلاف والتناحر، في زمن يمد لنا ذراعيه ملتمساً قبساً من ضياء يخرجه من عتمة ووحشة اللهاث المحموم على البقاء، على الرغم من أن مفردة «الحرية» لم ترد في القرآن الكريم بلفظها، وحتى ما ورد من مشتقاتها جاء في سياق تضييق الخناق على نظام العبودية الذي كان شائعاً في الجزيرة العربية. إلا أن مفهوم الحرية الشرعية ورد كثيراً في سياق التأصيل للقيم الإنسانية ومنها قيمة الحرية لتكون في مستوى التكليف والالتزام ولتخرج المؤمنين بالرسالة المحمدية من جملة من القيود التي فرضها الواقع السابق. وهذا ما يمكن قراءة دلالاته القرآنية في مثل النهي عن الخضوع لسلطة الآباء وسلطة اتباع السائد على حساب الحقيقة وهو المعبر عنه بـ«الملأ» بل تحولت الحرية بعد نهاية عهد الاستضعاف إلى مطلب ضروري يستدعي الهجرة وترك الديار، ولم يكن هذا المفهوم قاصراً على تحرير المسلمين بل كان ليشمل قبل التبديل الذي طرأ على المفاهيم الإنسانية بعد انقضاء ما اصطلح على تحقيبه بالخلافة الراشدة غير المسلمين، فالخليفة عمر بن الخطاب قال قولته المشهورة التي ذهبت مثلاً «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً» . فالحرية شرط التكليف وهي الأسلوب الاحتجاجي الذي كان يستخدمه القرآن حتى مع كفار قريش حيث عرض حجتهم بمنتهى الموضوعية وجعلها على النصف من حيث القيمة الاستدلالية كما قوله: «وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين». والشواهد في التأكيد على قيمة الحرية في النص الشرعي متكاثرة إلا أن هذا المفهوم سرعان ما أصابه التكلس والضمور في التناول الفقهي بعد أن تحولت مفاهيم الإسلام الكبرى بسبب الاستلاب السياسي والممارسات القمعية في التاريخ الإسلامي، التي وظفت المدارس الفقهية عبر تغذية صراعاتها المذهبية وشرعنة الاستبداد السياسي، الذي ما لبث أن انعكس على الفقهاء أنفسهم حتى لم يسلم الأئمة الأربعة من تأثيرات غياب مفهوم الحرية، حيث توالت المحن عليهم كل بحسب السياق التاريخي الذي وجد فيه، واستمر هذا الانحدار في التأصيل لمفهوم الحرية وممارستها على مدى عقود طويلة عدا استثناءات يسيرة لم تكن لتؤثر على المشهد العام، حتى جاءت لحظة الولادة الثانية للاجتهاد الإسلامي عبر رواد النهضة، كالأفغاني ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده ورشيد رضا والطاهر بن عاشور، مع آخرين، حيث فتح ملف الحرية مجدداً لكن منظوراً إليه هذه المرة من نافذة الآخر الغربي الذي لم تكن تجربته بأحسن من تجربة مجايله حتى استقر به الحال إلى اعتبار مفهوم الحرية أساسياً ومحايثاً لمفهوم الوجود ذاته، وكلفه ذلك الكثير من الدماء والصراعات والتضحيات، وللأسف فإن خطاب النهضة بكل إيجابياته وسلبياته لم يتحول إلى خطاب سائد بل كانت المعارضة له شديدة. وسرعان ما اضمحل مع بزوغ نجم الحركات الإحيائية التي كانت الجماعة الأم، جماعة الإخوان المسلمين، أول من مثلها في العصر الحديث ثم توالت الانشطارات وازداد الوضع تفاقماً بعد الاصطدام بالسلطات التي جاءت على أنقاض الاستعمار، ودخلت في صراع طويل ودموي مع هذه الجماعات مما أدى إلى وضع مفهوم الحرية على الرف على حساب الحفاظ على الهوية واستعادة الخلافة والسعي لمجتمع فاضل من بوابة الحاكمية وتطبيق الشريعة، إلخ .. تلك العموميات زدات الأمر تعقيداً وغموضاً، ومع ذلك فإن كل المؤشرات اليوم وبعد رياح العولمة العاتية التي حولت العالم إلى قرية كونية يجب أن يعيد الخطاب الإسلامي فتح ملف «الحرية»، وكل لوازمها من التعددية والحوار وقبول الآخر كضرورة حتمية. فالأمر لم يعد خياراً يمكننا قبوله أو رفضه. نعم يمكن أن نختلف على ضوابط الحرية وعلى تطبيقاتها لكن الحد الأدنى منها المتمثل في حرية القرار الذي يتخذه الإنسان الحر الواعي المكلف، والذي لا تستطيع قوى العالم مجتمعة أن تسلبه إياه، هو ما يجب أن نتفق عليه لنخرج من عزلتنا عبر العودة إلى القيم الأساسية التي جاء بها الإسلام، واستطاع من خلالها أن يؤسس لحضارته العظيمة.

[email protected]