ميثاق الأمم المتحدة وبابه السابع

TT

بينما أبدأ كتابة هذا المقال فإن الأخبار من فلسطين تأتي بأمرين:

أولهما: أن الفصائل الفلسطينية بما فيها فتح وحماس وباستثناء الجهاد، على وشك التوقيع على اتفاق بشأن وثيقة الأسرى الفلسطينيين التي حاول البعض استغلالها لإثارة فتنة بين الرئاسة والحكومة الفلسطينية، تصب في صالح المخططات الإسرائيلية الشريرة، التي هي حقيقة واقعة ودائمة رغم تعالي بعض الأصوات في عالمنا العربي هذه الأيام باتهام الثقافة السياسية العربية بأنها تحاول إخفاء عجزها بإدعاء وجود مؤامرات خارجية، مع أن التاريخ ـ وليس تاريخنا فقط أو تاريخ منطقتنا ـ حافل بالمؤامرات التي ينكشف أمرها رغم الإصرار لسنوات على إنكارها، ولعل قراءة كتب تاريخ حديثة تصدر في الولايات المتحدة وإسرائيل علاوة على التاريخ الأوروبي، تكشف عما كان يدبر في ظلام وينفذ في دور اصطناعي يبهر ويخفي الحقائق، ولكن هذا على أية حال موضوع آخر يستحق ربما أن نتناوله بتفصيل أكبر في مناسبة قادمة.

أما الأمر الثاني فهو استعداد إسرائيل لاجتياح قطاع غزة بحجة البحث عن جندي من جنود الاحتلال وقع في قبضة فصيل من فصائل المقاومة، الذي طرح الإفراج عنه بمبادلته بعدد من النساء والأطفال القابعين في معسكرات الاعتقال الإسرائيلية بالمخالفة لكل شرعية وقانون، ويأتي هذا الرفض تأكيدا لحقيقة أنه في كل أزمة، فإن الخيار الإسرائيلي هو تصعيد الموقف واستغلاله لتنفيذ مخططاتها الإجرامية ضد الشعب الفلسطيني وحقوقه، بل وجوده ذاته على أرضه، ويبدو أنه في هذه المرة شعرت الولايات المتحدة بخطورة ما سوف تقدم عليه قوات الاحتلال والعدوان، فارتفع صوتها خافتا يدعى تحذير إسرائيل من اللجوء للقوة للإفراج عن الجندي، ولكننا نعرف أن هذا التحذير ليست له ولن تكون له أسنان، وأنه سيتحول بعد الاجتياح إلى الإعراب عن الأسف لوقوع ضحايا مدنيين ومطالبة الطرفين بضبط النفس وعدم الاستخدام المفرط للقوة، وغير ذلك من التعبيرات الجوفاء التي لم تمنع إسرائيل، وهي تعرف حقيقة الموقف الأمريكي المنحاز لإسرائيل دائما وأبدا وفي كل الظروف حتى عندما تتنوع الحجج التي لا تختلف أبدا في جوهرها ولا تخرج عن التأييد العلني والخفي والتبرير الواهي.

وعندما وصلت إلى هذا الحد من الكفاية كانت العملية العدوانية الإسرائيلية قد بدأت بما تشمله من اجتياح وقصف للأفراد والمنشآت ومنها محطة كهرباء جنوب غزة الوحيدة، وكل ذلك لا يمكن أن يكون قصده الإفراج عن الجندي لأنه في الحقيقة يعرضه للخطر، ولو كانت حياة هذا الجندي ـ الذي هو ضحية السياسات الإسرائيلية ـ تهم حكومته لما وجدت غضاضة في الاستجابة إلى طلب الإفراج ـ ليس عن مجاهدين أو مقاومين أو إرهابيين ـ بل عن نساء وأطفال ما كان يجوز في أي عرف أن يتواجدوا وراء الأسوار تحت أي ظرف. ولكن هدف إسرائيل الحقيقي هو الاستمرار في تدمير الشعب الفلسطيني ومنشآته وتعريضه لمزيد من القهر والعذاب، لعله يرضخ أو يتخلى عن حقوقه، وهو أمر لن يحدث، لأن مقاومة الاستعمار والاحتلال والعدوان هي من طبيعة الإنسان والشعوب العريقة مثل الشعب الفلسطيني.

والواقع أن الهدف الإسرائيلي هو أيضا علاوة على ما سبق هو محاولة الوقيعة بين الفصائل الفلسطينية بعد أن أمكن تجاوز أزمة وثيقة المسجونين المفتعلة باتفاق يؤكد الثوابت والمرونة، وينسج الروابط الضرورية بين فتح وحماس وبين الرئاسة والحكومة، بعيدا عن العواطف السلبية والمرارات المدمرة التي حاول البعض أن يغذيها لأسباب لا تمت إلى مصلحة الشعب الفلسطيني وقضيته بصلة.

وفي ضوء ذلك كله، فإني أعتقد أن كلمات الشجب لا تكفي، والإشادة بصمود الشعب الفلسطيني وتحلي مسؤوليه بروح المسؤولية لا يحلان المشكلة، بل يجدر بالدول العربية أن تلجأ إلى مجلس الأمن مطالبة إياه والدول التي تتحمل معه وفيه مسؤولية السلم والأمن، وتشجينا ليل نهار بأهازيج حقوق الإنسان والديمقراطية.. باتخاذ موقف واضح يتجاوز عبارات الأسف الباهتة المعتادة، ويستند إلى الباب السابع من الميثاق ـ الذي طالما استخدم ضد العرب وغيرهم سواء بالحق أو بالباطل ـ مع تهديد إسرائيل باتخاذ ما يلزم لإيقافها عند حدها ـ وعند حدودها أيضا ـ وفقا لتعبيرات سبق استخدامها، كما يتضمن في نفس الوقت، خطة سياسية لاستئناف العمل من أجل الاقتراب من التسوية العادلة والشاملة التي سبق للعالم أن اقرها تحت أسماء مختلفة يحسن عدم اللجوء إليها، لأنها أصبحت سيئة السمعة، بعد أن تم خرقها ووأدها جهارا نهارا بمباركة من كان من المفروض أن يتحملوا المسؤولية الأولى في تفعيلها. وعندما يكتب بأمانة التاريخ الحقيقي لمفاوضات السلام الفلسطيني وأسباب فشلها، فسوف تتضح حقيقة من يتحملون المسؤولية عن فشلها، وهو أمر بدأ يتضح فعلا في كتابات بعض الشرفاء والصرحاء من الأمريكيين وبعض الإسرائيليين. ولكننا لا نريد أن ننبش الآن في الماضي، بينما الحاضر والمستقبل ما زالا يتعرضان لمحاولات الاغتيال. ولعلنا نرى هذه المرة تحذيرات السيدة كونداليزا رايس وزيرة خارجية الولايات المتحدة تخرج من دائرة الآمال غير الفعالة، لتصبح حقيقية وفعالة وقادرة على أن تضبط الأمور، وإن كان هذا الأمل يبدو لي ضعيفا، ولكن اللجوء إلى مجلس الأمن يضع جميع الدول الكبرى والمجتمع الدولي كله أمام مسؤولية إثبات أن العالم، وقد أحرز تكنولوجيا تقدما مدهشاً، لم يقرن ذلك بتدهور في القيم التي تعطي لتلك التكنولوجيا روحا حقيقية وتجعل من العولمة ـ ليس محاولة للسيطرة أو لإعادة تشكيل العالم في صورة واحدة ـ بل تأكيد لمعان سامية يصبح التقدم العلمي أداة لها وليس بديلا عنها، يستخدم أقذر وسائل البطش وأحط أساليب الهيمنة ليسكت صوت الحق والعدل.

وإذا كان العالم وجد من المنطقي أن يشكل لجان تحقيق دولية تحقق في جرائم ارتكبت في أماكن مختلفة، وشكلت محاكم دولية للمعاقبة على أفعال تخالف الشرائح والقوانين الدولية والإنسانية، فإنه من المنطقي أن نطالب بتشكيل لجنة دولية لها أنياب حتى إذا لم تكن حادة كما نفضل ـ للتحقيق الواسع الجاد في ممارسات الاحتلال الإسرائيلي الذي أصبح أقدم استعمار ما زال باقيا على وجه الأرض، والذي لا يبدو أنه يريد أن ينقشع.

وقد يكون ما أطالب به فيه نوع من الخيال الحالم، ولكنه قطعا يستجيب لأية رغبة حقيقية في أن تكون هناك معايير متساوية في مواجهة أحداث متشابهة، تتنافى مع كل ما يحمله ضمير الإنسانية من تطلعات إلى الخير والعدل والمساواة، وهي الأسس التي تتيح للعالم أن يواجه المشاكل الحقيقية التي تستحق كل الجهد وهي مشاكل الجهل والمرض والتخلف والجوع، وعموما فلنجرب، ولنحاول، ولنر هل ضمير العالم ما زال متيقظا لجميع الأخطار والمشاكل وليس فقط لتلك الأمور التي تهم دولا عظمى تاهت عن المبادئ التي نادت بها حتى إذا كانت المناداة أحيانا من قبيل التظاهر والرضاء عن النفس بغير مقتضى. لأن الواقع انه يصبح من الغريب أن مجلس الأمن الذي لوح مؤخرا بالباب السابع وهدد بالعقوبات وكبائر الأمور دولا كثيرة لعلها تستحق بعض الزجر، ولكن قطعا بدرجة أقل مما تستحقه إسرائيل، أقول يصبح من الغريب ألا يتعرض المجلس لما يجري في فلسطين، بعد أن ترك الفرصة لما كان يسمى عملية السلام وأصبح ـ نتيجة لسياسات إسرائيلية على يد حكومات متعاقبة ومتباينة ـ عمليات عسكرية لاغتيال السلام مع قتل النساء والأطفال، ويدمر الآمال مع تدمير المنازل والحقول، ويسمم العقول التي تطلعت يوما، وما زالت متعطشة إلى سلام وآمان يظلل الجميع وينهي بالعدل صراعا شاخ، ولكن أسنانه ما زالت تنهش في اللحم الحي.